30‏/10‏/2012

قمر.. (18) الأخيرة

في عام ما بعينه.. أرسلها محمد لأداء مناسك الحج.. كان الأمر بذاته حلماً.. بدأت رحلتها بسعادة لا تحتمل.. وانهتها بتعليق واحد.. بعد أن ضربها قيظ تلك البلاد.. يا الله.. لولا بيت الله.. لما زار هذا المكان أحد من البشر!
لكنها نالت ثواباً عظيماً.. إلى جانب لقب الحاجة.. "الحاجة قمر".. بدت توليفة الاسم للوهلة الأولى مضحكة! لها وللمهنئين على حدّ سواء.. الذين استقبلتهم لأسابيع وأسابيع.. قد كان لها الكثير من المعارف والمحبين.. والممتنين.. ممن داوتهم يوماً.. أو قرأت من أجلهم أوراداً وصلوات..
وسألها أحدهم عن حال ابنها في الغربة.. وكيف يتعامل مع الحرب..
الحرب؟ نعم.. فهناك حرب قد قامت في الخليج.. لم تكن الجدة قد سمعت بعد بأمر الحرب.. وكانت الكلمة كافية لتجعلها فزعة..

طلبته على عجل.. كلمته على الهاتف.. قالت له.. عد يا بني.. عبثاً حاول أن يطمئنها.. وأن الأمور تسير بخير.. عد يا بني..  أماه.. لنا هنا حياة وأرزاق.. كيف نتركها.. تباً لكل الأرزاق.. عد يا بني..
واصفرّت.. ونحلت.. وكل يوم تكلّمه.. ولا فائدة معه.. وهي تشاهد التلفار.. وبكاؤها لا ينقطع.. سيصيبني الجنون.. حرب أخرى؟ حرب أخرى تسرق مني كل جميل؟ أولادي.. أولادي..
أخفوا عنّي الهاتف.. ومنعوني التلفاز.. لكنّني سمعتهم.. يقولون.. أن الحرب قامت حقاً.. وأن أمريكيا دخلت الحرب..
أصابتها الحمّى.. وهزل على الهزل.. تشوّش عقلها.. صارت تتخيل محمد وكريم يتجابهان.. ويتقاتلان بالسلاح.. وبناتها وأحفادها.. في رعايتها.. ساعة بساعة.. ومن طبيب لطبيب..

حتى كان ذلك اليوم الذي استفاقت فيه مبكرة.. وخرجت إلى حديقتها.. تتنسم بوادر الربيع.. والنرجس قد تفتّح.. والحمى قد قضت.. طلبت من زينب أن تعدّ لها طبق البامياء الذي تحبّه.. فأعدّته بفرح واستبشار.. وقضت بين أهلها ليلة طيبة..
ومضت إلى نوم عميق.. فأخذها الحلم.. وذهبت إلى مكان جميل.. مكان تطمئن له.. وتحبه.. حلمت بالدّكان.. وباللوز.. وبالريالات الفضيّة.. وبرائحة البخور والبرتقال.. حلمت بالسّوق.. وبسنابل القمح.. وببيتها العتيق..

واستيقظت في جوف الليل فزعة..
- يا زينب، مين هدول الرجال اللي داخلين علي؟ أعطوني غطا راسي..
- بسم الله الرحمن الرحيم.. مافيه حد يا يمّه.. الدنيا ليل نامي..
- بحكيلك أعطيني غطا راسي..
فناولتها إياه زينب.. فهي لم تكن لتخشع أو تقنع دونه .. ولفّته حول رأسها.. كأنها تهمّ في الرحيل.. وأسندت رأسها لوسادتها.. ملبّية النداء.. وذهبت في سبات عميق..

لا تجزعي يا قمر..
فما كان هؤلاء رجالاً.. كانوا ملائكة أبرار.. قادمين من أجلك يا قمر.. فاليوم تلقين عليّاً.. ووالديك..
أمّا أولادك.. فقد سلّمهم الله.. من أجلك..
هاهم أمام قبرك ينتحبون.. ينتظرون يوماً يلتقون بك فيه.. في دار أخرى.. دار أجمل وأحلى وأبهى.. في جنّة نعيم.. لا لغوٌ فيها ولا تأثيم..

26‏/10‏/2012

قمر.. (17)

حبات عنب تلمع في وضح النهار.. ووردة حمراء جوريّة.. وعطر ياسمين.. وعشب أخضر.. وزيتون.. وليمون.. ورائحة التراب.. في حديقة لي.. أزرعها.. لمن المُلك اليوم يا قمر؟ الملك دائماً لله.. لكنه اصطفاني اليوم لهذا الملك.. أما كيف وصلني؟ فالحكاية بسيطة..

قد وصلت الحضيض أياماً.. وقبلت الصدقة أحياناً.. إلا أنني ما كنت لاُحزن ولديّ.. فقد رجاني محمد أن يظل في المدرسة.. كم كنت أحتاجه ليعمل.. لكن كانت لديه أحلام كبيرة.. وكريم يقلّده في كل أفعاله.. 
تعبت حتى وصل الثانوية.. ظننت أنني ارتحت.. إلا أنه رجاني أن يستمر.. أراد أن يلتحق بمعهد للمعلمين.. اصبري من أجلي قليلا.. فصبرت.. وحتى عندما أراد السفر للخليج.. صبرت.. وعندما أرسل لي أول ما كسبه.. ارتحت.. حبيبي.. هو من بنى لي هذا البيت.. وملأه من أجلي.. أثاثاً ومتاعاً.. مع أنه لا يساوي في غيابه شيئاً.. ولا في غياب كريم.. الذي سافر هو الآخر.. إلى مكان بعيد.. اسمه أمريكيا.. ولم يبقى لي إلا بناتي.. حبيباتي.. أمطرن حياتي بالأحفاد.. 

والعمر يسير بسرعة ما عادت تدركها قمر.. والعالم تعجز عن فهمه أو اللحاق به.. والزمان توقف عندها في مكان ما.. وهذا ما جعلها محبّبة ومضحكة ككلّ الجدّات..
كانت تعجز عن لفظ الكثير من الكلمات.. تلفاز! احتاجت وقتاً لتتقن هذه الكلمة.. وأسماء أحفادها الغريبة.. نسرين ونادين!! ماذا حلّ بآمنة وفاطمة؟ وكانت تنفعل عندما تشاهد نشرة الأخبار.. وترى مشاهد الحروب.. فتلعن النّجليز واليهود معاً.. وتبكي مع المسلسلات اليومية.. 

وكانت تجيد رواية القصص.. فحدّثت أحفادها عن جدّ اسمه علي.. لم يروه.. لكنّ قصته كانت كقصص الأبطال.. كيف كان يحبها.. وحارب العالم من أجل أن يتزوجها.. كان ناسكاً.. حقاً..
وحدّثتهم عن المقام.. وعن أجدادها الأولياء الصالحين.. وعن يوم الزفاف.. ويوم الهجرة.. وأوصتهم أن يحفظوا عنها ويقصّوا لم بعدهم.. 
كانت تضحك إن سألها أحفادها.. كيف يكون اسمك يا جدتي قمر.. واسم أمي زينب؟ أي منطق في هذا؟ وكانت عيناها تبرق إن سألها أحدهم.. أين ذهبت أسنانك يا جدّتي؟ فتروي قصة ذلك اليوم المشؤوم.. لكنها كانت قصة تعتز بها.. كانت تحكيها بفخر وكأنها مناضلة.. وماذا يملك أمثالها ليفخروا به؟ .. قصصاً ظنوا أنها عظيمة.. وكانوا هم يوماً أبطالها..

23‏/10‏/2012

قمر.. (16)

إذاً زوّجت البنات.. ورحلن عني لمكان آخر.. وسعادتي فيهن منقوصة.. فلا أنا زوجتهن كما أريد.. ولا أنا بحال يخوّلني أن أنتظر ما أريد.. وأبي زاد من سوء حالي واستغل الفرصة.. أرسلي الولدين مع أخواتهم.. وتزوجي.. لم لا تتزوجين؟ هي ذا زوجة عبدالله فعلت.. وأنجبت.. ومن قال لك أنني مثلها؟ وهل واجب علي أن أحذو حذوها؟

سأكمل ما نويت.. وسأُخرج نفسي مما أنا فيه.. أمر اهتديت إليه عندما قالت كُبرى بناتي زينب.. أمّاه لم لا تسكنين جوارنا؟ هاتي أخوي.. ولدينا هنا مدرسة.. وتجدين عملاً.. وتبتعدين عن جدي ومناكفته..
كيف لم أفكر بهذا من قبل؟
وكّلت زوج زينب أن يستأخر لي بيتاً.. فوجد لي غرفة متهالكة.. لكنها تفي بالغرض.. وحملت الولدين ومتاعنا القليل.. وهجرت جوار والديّ لغير رجعة..
استقرّت حياتي سريعاً.. ربما خفّفت عني سعادة بناتي وطمأنت بالي.. فأولاد عبدالله لا بأس بهم.. وأولادي ماضون في درسهم ويكبرون سريعا.. وأنا.. استأنفت صنعة الأجداد.. فيبدو أن لا أحد غيري هنا يجيد تطبيب المريض.. ووصف الأعشاب.. وترتيل الأوراد..

في يوم العيد حدث ما لم أتوقعه.. كنت مشغولة في الدار عندما استوقفني صراغ العيال على باب الدار.. ولداي يرجمان شيخاً كبيراً بالحجارة! ركضت أستعلم الأمر.. وحقاً كانا ولدي.. محمد وكريم.. والشيخ الكبير.. كان أبي!
صرخت وضربتهما واستوقفتهما.. ما بالكما؟
تقدّم نحوهما أبي وسأل.. لم رجمتماني بالحجارة؟
ألست قادماً لتأخذ أمّي منّا؟ وتزوّجها؟
أطرق أبي لحظة بانكسار وأجابهما.. لا، أنا هنا فقط لأفرح معكم بالعيد.. وأخرج من جيبه قروشاً.. وأهدى لهما..
كان هذا اعتذار أبي لنا.. ومع أنه لم يصرّح به.. إلا أنه قضى بيننا أيام العيد.. بسلام.. دون أن يتكلّم في ذلك الأمر..
أما أنا.. فابتسمت في ذلك اليوم.. وأنا التي لم تبتسم منذ زمن.. لا فرحاً بالعيد.. بل فرحاً بأبنائي.. ففي ذاك اليوم عرفت.. أنّ الله قد جعل لي فيهم مولا وجعل لي فيهم نصيراً..

21‏/10‏/2012

قمر.. (15)

ما هذا البلاء؟
ألم أكن بالأمس مدلّلة؟ وكنت عروساً؟ وكنت أجمل البنات؟ وكان لي بيت؟ وحياة؟
سأخرج للعمل.. وأعول أهلي.. سأقتلع عشباً ضارّاً.. أو أحصد قمحاً.. أو أقطف زيتوناً وليموناً.. وليكن ما يكون.. أعرف أنّ أبي لا ييأس.. وأنا كذلك لن أيأس..

الأمر منوط بك يا الله.. أن تدفع عني هذا الهمّ.. أن تعينني على هذا الشقاء.. أن تصبّرني على قيظ الشمس.. والسعي قبل الفجر.. وطول النهار.. أن أتحمّل خشونة يدي.. والتجاعيد التي استراحت جنب عينيّ.. أن يتسع صدري لكلّ ما غرق فيه من الوجع والأحزان.. أن أتقبّل الجوع والعوز.. وطول الأيام.. فالأيام تمرّ علي ثقال.. وكأن عجلة الزمان قد توقفت الآن.. أنتظر تبديل الحال.. وما يتبدّل الحال..

ومن بالباب يا بنات؟
خالي محمد.. عزيز يا خال.. لم أرك منذ زمن يا خال..
جئتني شفيعاً؟
من أجل من؟
أولاد عبدالله؟ وماذا يبغون؟
بناتي؟ مستحيل.. أنت تعلم أن علياً أقسم أن لا يزوّجهم.. علي لعنهم وطردهم.. 
- بس علي مات.. وفكري بحالك وبحال هالبنات.. أولاد عمهم أولى فيهم.. وتسعي على اثنين أهون من ما تسعي على خمسة.. فكري يا خال.. فكري..

أهكذا إذاً.. هذا ما أرسلت لي يا الله؟ خير هذا أم شر؟ أم زيادة همّ وغمّ؟
أقسم الجميع أن الأمر خير.. وسينزع عني عبئاً كبيرا..
لكنني لا أطيق الفكرة.. هل في هذا عصيان لك يا عليّ؟ 
أين أنت منّي يا عليّ؟ وكيف أتصرّف دونك؟
فأنا تعبة..
وأنا مضطرة..
وإن وافقت؟
سامحني يا عليّ..
سامحني يا عليّ..

14‏/10‏/2012

قمر..(14)

القلب جريح.. والجرح عميق.. وإنّا على فراقك يا علي لمحزونون.. الحق الحق.. أن قمر كانت تحبّ عليّا.. وعليّ كان يحبها.. بكل عناده وكل جنونه.. كانت تحبه.. وبصبرها عليه ورحمتها به.. كان يحبها..
والآن.. خلّفتني وحيدة.. لا طاب العيش بعدك..

وهمّ هؤلاء.. من يحمله؟ من يعينني عليه؟ وأبي لمّح أنه ضائق بهم... وما لبث أن صرّح..
ما كادت تنتهي عدّتي.. يريدني أن أتزوّج.. وهؤلاء.. ما أفعل بهم؟

الحل عنده سهل وسريع.. زوّجي البنات.. والولدان.. ألحقيهم بأهلهم.. وهل لهم أهل غيري؟
يريدني أن أرسلهم لأبناء عمومتهم.. من غضب عليهم عليّ وطردهم.. الآن صاروا أهلاً لهم؟ الآن صارو أحق بهم مني؟ 
وأمي تقول.. أطيعي والدك.. بئس الرأي.. وبئس الطاعة.. وعليّ؟ ألا يفهمون أني لن أرغب رجلاً بعد عليّ.. مازال وجهه يلحّ علي وهو يلفظ آخر أنفاسه.. وهو يوصيني خيراً بالأولاد.. كيف أخفّف وطأة اليتم عنهم.. كيف أواجه وجهه إذا زارني في المنام؟

 وماذا سأفعل الآن.. وفي البيت نساء جئن خاطبات.. من جاء بهم؟ من أعلمهم بأمري؟
سأخرج اليوم في حاجة ولن أعود حتى يسأموا.. سأفتعل كلّ يوم حاجة.. ولكنّ أبي لا يسأم ولا يكف.. 
ماذا أفعل كي يكفّ الناس؟ ماذا لو كنت أقبح؟ أو كنت أكبر؟ أوما كان خيراً لي؟ وماذا لو التقطت هذا الحجر.. وكسّرت أسناني.. أولا أنال الأمرين معاً؟ سأبدوا أقبح.. وسأبدوا كمن هرم وسقطت أسنانه.. 
لم تصدق أمي أنني أقدمت على ذلك.. والدماء تملؤ فمي.. ثار أبي.. لم آبه لصراخه وضربه.. فقط فلتكفّوا عني! 

تلك الليلة.. أوت لفراشها بعينين غارقتين بالدموع.. بمن تستنجد؟ ولمن تلجأ؟ أتستنجد بالأجداد؟ هي تشعر  بالقرف من أبيها وأجداده.. والمقام بعيد.. بعيد جداً.. حينها تذكّرت أن لها رباً.. تضرّعت إليه.. ورجته أن يلهمها مخرجاً.. ساعدني يا الله.. ساعدي يا الله..

09‏/10‏/2012

قمر.. (13)

الآن.. آن الأوان ليقف مع نفسه زمناً ويتذكر..
الآن.. وبعد أن صارت الخيمة بيتاً من طين.. وبعد أن صار جزءاً من هذه الأرض..
لا بأس.. فالأرض كلّها أرض الله..
سيتذكّر كلما هوى بمعوله لمّا كان له أرض وهجرها.. ولمّا شقّ بيديه طريقاً ليسير عليها غازيه.. ولمّا بنا بيديه مدرجاً لطائرة قتلت أهله..

كيف استعملونا لخدمة مطامعهم؟ 

سيقف مع نفسه أوقاتاً ليقيّم حاله..
من أجل ذلك أرسل أولاده للمدرسة.. ربما صاروا أحسن حالاً منّا.. ربما تعلّموا شيئاً ما ينفعهم.. شيئاً ما يقيهم حماقاتنا وعنادنا وجهلنا..

سيفكّر كثيراً.. وسيجهد نفسه في العمل.. كي لا يفكّر كثيراً.. وسيتملّكه الإعياء.. وسيسقط فجأة..
لا يدري ما أصابه؟ هو تعب على تعب..
الجسد منهك.. والمعدة تتألّم.. أياماً ينصلح حاله.. وأياماً يغلبه المرض.. وقمر تبخّره.. وتغلي له الأوراق والحشائش.. وتتلوا على رأسه الأوراد.. ولا يبدو أن شيئاً منها ينفعه..

سيجبره ذلك على أن يزور الطبيب.. وسيرسله الطبيب للمستشفى.. حتماً الأمر ليس بهيّن!
ستجري له المستشفى عملية جراحية.. وسيـُشقّ بطنه.. وسيقضي شهراً بعد ذلك يتعافى..  
إلا أنه لن يتعافى.. وسينتفخ بطنه.. وسيلتهب جرحه.. وسيستصدر دماً وصديداً.. والطبيب يداويه ويهتمّ بجرحه.. وليس الأمر إلى تحسن..

أمره الطبيب في الذهاب إلى المنزل.. وكيف يطلب منه ذلك وحاله ليست بأفضل؟
هل أيس الطبيب من شفائه؟
هو يشعر بذلك.. يشعر أنه لن يبرأ.. أن أيامه إلى زوال.. من أجل ذلك قرّب قمر منه وأسرّ لها بصوت مرتجف..
محمد وكريم راح يتربوا أيتام يا قمر.. زيي أنا وعبدالله..
وبكى علي..
وانتحبت قمر..

04‏/10‏/2012

قمر.. (12)

أسمينا الولد كريم.. طمعاً في وجه الكريم.. أما الأسى.. فمرّ في أوله.. منتن في أوجه.. حتى إذا مضى عليه حين.. تعتاده.. وتنشغل عنه.. فلا تعود تحس بطعمه.. ولا تشمّ له ريحاً..
وخرج علي يبحث عن عمل.. فهذه الأرض تصلح للزراعة.. وأعود لعملي كفلاح.. عمل هجرته لسنين.. واستأجره أحد المالكين.. وعمل عليّ بكدّ.. من الإشراق حتى المغيب.. وحيناً لبعد المغيب.. بين يديه أنفسٌ كـُثر ليطعمها.. أمّا والد قمر.. فاستأنف صنعته.. بسرعة ونجاح.. فصنعة الخرز والتمائم لم تكن يوماً بكاسدة..

هل كان على همّه أن يزيد؟
جاءه أبناء أخيه عشاءً يبكون.. ما الخبر؟
أمي يا عمّاه.. أمّي تزوجت..
تزوّجت؟ كيف؟ وممن؟ إبراهيم؟ زوج الثنتين والثلاث؟ هل جنّت أمّـكم؟
أقنعها.. أغراها.. لا ندري كيف.. 
لكن أنا أدري كيف.. ولم.. 
وفكّر علي أنّ هذا الرجل يشبه أخاه قليلاً.. فهو ربما طامع بشيء.. ربما هو طامع في أرض الأرملة! الجميع هنا يتحدث بأننا عائدون.. هو أمر عارض.. ونحن لا محالة غدا راجعون.. لا أحد هنا يفهم شيئاً!
لا بأس ياعمّاه.. دعوها وما صنعت.. تعالوا.. طاب خاطركم.. عيشوا بيننا.. واعملوا معي.. وأزوجكم بناتي.. أنتم في النهاية أولادي..
وأوصى قمر بأولاد أخيه خيراً.. وأوصاها أن تعدّ ما يكفي من الطعام.. فالآن هم لا أمّ لهم..

لمّا عاد ليلاً وجدها مضطربة.. ما الأمر؟
ذهبت لأدعوهم إلى الطعام فم أجد خيمتهم..
أسرع علي يبحث عنهم.. سأل هنا وهناك.. حتى قال له أحدهم.. غادرت أمهم مع زوجها لمخيم آخر.. وجاءتهم صباحاً تدعوهم للمضي معها.. نزعوا خيمتهم ولحقوا بها!

الحمقى!!
أيكونون خيراً من أبيهم؟ أو خيراً من أمهم؟
والله لا ألحق بهم.. والله لا أكلّمهم.. والله لا أزورهم.. والله لا أزوّجهم.. والله.. والله..
وطبعاً.. كان أن برّ علي بكل ما أقسم..

01‏/10‏/2012

قمر.. (11)

هُزم العرب بطائرة واحدة.. ووقـّعوا على هدنة خاسرة.. أمّنوا انسحاباً لهم تاركين الناس لمصيرهم.. لهم إله هو أولى بهم.. حتى إذا دخلها أعداؤنا.. أنذروا الناس.. إمّا القتل وإمّا الرحيل.. صارنا عبرة لمن حولنا.. وفيهم أيضاً دقّ ناقوس الرحيل.. لملم الناس على عجلٍ وخوفٍ أشلاءهم في صُرر باهتة.. وغلّقوا الأبواب.. وهاموا شرقاً وغرباً.. يبتغون الملجأ.. 

جمع علي أهله وأرملة أخيه وأولاده.. ومشى كما الناس لا يدري إلى أين.. التفّ الناس حول بعضهم.. لنمش ِمعاً متقاربين.. لا تفرّقنا الدروب.. وقمر تنظر في كل الأنحاء تبغي أهلها.. فهم علي مرادها وبحث معها حتى وجدهم واقترب منهم.. نظر في عيني خاله.. وهو الذي لم يحدثه منذ سنين.. بادره خاله بالكلام.. امشوا معانا خليكم قريبين.. أومأ علي برأسه موافقاً.. حاضر. وفي عينيه دمع ثقيل..

مشينا ومشينا.. كلّما أجهدنا نحطّ الرحيل.. تحت شجرة أو على أبواب قرية.. من القرى من أنزلنا زمناً.. ومنهم من أبوا أن يضيّفونا.. خوفاً من أن نحمل إليهم مصيرنا.. وشيئاً فشيئاً بَعُد أناس.. وتفرّق أناس.. واقترب أناس.. أمّا قمر.. فأثقلت بحمل ٍلم تكن تدري به..
مشينا ومشينا.. حتى وصلنا نهر الأنبياء.. وجاوزناه إلى أرض غائرة.. حارّة ورطبة.. هناك وجدنا أفواجاً من الناس.. تجمعهم خيام وبؤس ونكبة وطن.. سكنّا بينهم.. ومثلهم أرهقنا الجوع.. ونزلت بنا الأوبئة..

ثمّ حلّ بيننا مسؤولون .. وزّعوا الطعام والخيام..  وقالوا أنتم لاجؤون.. ونحن لكم مغيثون.. قد صار لكم قضيّة! لن يسكت العالم عن هذه البليّة!
وأنجبت قمر بمشقة أوّل أبناء الهجرة.. صبيّاً لن يعرف الوطن.. إلا في قصص أمّه.. وخيالات عودته..