30‏/04‏/2012

ثلاثون.. (7)

الله..

أفلح من وجد الله.. وأين أجد الله؟

عليّ أن أعترف أن علاقتي بالله هشّة ومشوّشة المعالم.. ربّما لأنها لم تبدأ بداية صحيحة وجليّة.. فالله في الطفولة هو الذي يعاقب بالنار إن أخطأت ويكافئ بالجنّة إن أحسنت.. وهو من قال هذا حلال وهذا حرام.. أمّا لم حرّم وحللّ.. ولم عليّ أن أصلّي.. فهذا أمر لم يفهمني إياه أحد!

والداي لم يحملا إجابة يوماً.. وأمّا المدرسة.. فقد تجرّأت يوماً وأنا طفل بالكاد أبلغ العاشرة وسألت معلّمي بكلّ براءة.. إن كان الله خالقي فمن أين جاء الله؟ وأين أجده؟ فما كان منه إلاّ أن عنّفني وأمرني أن لا أعيد ما قلته لأحد! وأنا لا أدري فيم أخطأت؟

نسيت أو تناسيت.. ومضت أيامي وأنا مسلم يصوم الشهر المفروض.. ويصلّي الجمعة.. ينام عن أغلب الصلوات.. يكذب إن دعت الحاجة.. ويخوض مع الخائضين..

لكنّ هذه الأسئلة لا تنمحي.. ومن حين لآخر لا بدّ أن تزورني.. وانضمت لها أسئلة أخرى.. الثواب والعقاب.. القدر.. فازدادت المسألة تشويشاً!
فوقفت مع نفسي لحظة.. وأنا اليوم قد قضيت من عمري ما قضيت.. ألا يجب أن أحسم الأمر؟ ألم يحن الوقت أن أجد جواباً..
أنا واثق أن هذا الكون لا يسير وحده.. وأن العدل منتصر في النهاية.. لكن عليّ أن أعرف.. كيف؟ وأين؟ ومتى؟ ولماذا؟

يا الله..
أنا عازم على أن أجدك.. وأعرفك.. وأعبدك.. عبادة حقّة.. لا عادة محضة..
أنا أعرف أنّ لك كتاباً.. سأقرؤه.. اجعل لي فيه هدىً..
أرشدني يا الله..

21‏/04‏/2012

ثلاثون.. (6)

أريد قضيّة..

عزيزتي القضيّة.. لا أعرف لك شكلاً أو رسماً.. لا أعرف لك لوناً أو طعماً..
لكنني أعرف أنّك شيء هائل..
وأنا طامعٌ أن يقال عنّي أنّي صاحب قضيّة.. صادقيني وزوريني ولو مرّة..

هل أعترف لك؟ أشعر بالحسد والغيرة من كل أصحابك.. أشعر بالغيرة تجاه كل من كانت حياتهم رواية عظيمة من العقد والآمال والعثرات والحلول..
وأنا أعاني من فراغ هائل.. ولا أعرف لي هدفاً أو حُلُماً واضحاً.. ولا أعرف من أين أبدأ..

اليوم وأنا على أعتاب الثلاثين.. حياتي رتيبة.. تعلّمت كما الناس وعملت كما الناس.. أنا كالجموع التي تأكل وتشرب وتنام وتتزوّج.. وبعد؟ ما أشبه اليوم بالبارحة..

لا أريد أن أتجمّد فأتصدّع وأتشقّق.. لا أريد أن أكون كمن قيل عنهم.. كان من الأجدر أن يُكتب على قبور البعض مات في الثلاثين ودُفن في الستين!

16‏/04‏/2012

ثلاثون.. (5)

رسائل لم يحملها البريد..

أنا في ذلك العمر.. يوم يغدوا الأولاد رجالاً .. وكل البنات جميلات.. فأصابني الحب!
شعور ملتهب.. ودقات قلب.. كأنها الحمّى.. وأنا أريد أن أحب. أريد أن أعبر الزقاق المعتم أنا وحبيبتي باكراً جدّاً قبل الدرس.. وظهراً يداً بيد والناس قائلون..

أريد أن أحب! كان قلبي طافحاً بالحب.وليس لي إلاّ سماسرة الحب.. 
وسماسرة الحب فتيان مثلي ولهم حبيبات، وللحبيبات صديقات ينتظرن حبّي، فأستأذن لأنال الحب، برسالة حب.
أخرجت القلم والأوراق وكتبت الكثير من الرسائل.. للسمراء والشقراء.. للطويلة والقصيرة.. لذات العيون السود والعيون الخضر.. وملأتها بتلك العبرات التقليديّة.. أنت لي كالهواء.. كالسماء كالماء.. وأنا بدونك ضائع هائم.. أنا غريب.. ولكنّ الاغتراب من أجل عينيك قضيّة.. 
لا أدري لم أحبك وقد ملئت الأرض ملايينا.. ولكنّ قلبي لا يختار من الزّهر إلاّ الرياحينا.. أنا مشتاق.. أنا قتيل.. لاتسأليني ما الدليل؟ إنّ العيون التي في طرفها حورٌ - قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا..

غلّفت الرسائل بأوراق ملونة حول زهرة بريّة وخبّأتها وأغمضت عينيّ لأنام.. وغداً موعدي مع الحب..
فرأيت فيما يرى النائم أنّني وحبيبتي قد كُشف أمرنا و رآنا النّاس.. وغضب منّي النّاس ولاموني.. أنت؟
فاستيقظت على شعور بالذنب عظيم.. ماذا لو عرف الناس؟ وأنا لهم مثاليّ وقدوة لأقراني.. وماذا لو عرف والدي؟ يا للهول! ربما قتلني.. هل أغامر؟

أخرجت الرسائل وفتحتها وتصفّحتها.. ولا أدري لم بدت سخيفة.. ألقيتها ثم أمسكتها ومزقتها بل فتّتها..
ومات الحب..
شعرت بالنّدم.. بالكثير من النّدم.. لكنّني لم أعرف ما مصدره.. هل لأنني كتبت الرسائل؟ أم لأنني تردّدت ولم أغامر؟

لم أروي هذه القصّة؟
لأنني كلّما وجدت نفسي أمام مغامرة.. أتردّد.. غالباً ما أتراجع وأختار أسلم الطرق.. أفكّر كثيراً في العواقب.. وخوفي من التندّم من عواقب الأمور أعظم من النّدم الذي يرافق التراجع عنها..
وأنا أريد أن أغامر.. أن أحاول.. ولكنّني جبان عن كل تجربة!

06‏/04‏/2012

ثلاثون.. (4)

كلمة واحدة

هناك الكثير من الكلمات.. كلمة غاضبة.. كلمة بائسة.. كلمة ناقدة وأخرى لاذعة.. كلمة فرحة .. كلمة صادقة.. كلمة كالسّم وأخرى ترياق.. كلمة كالشّهد وأخرى علقم.. كلمة.. وكلمة..
وأنا كنت بحاجة لكلمة واحدة.. كلمة تطمئنني وتمسح حزني.. كلمة واحدة تخفّف من جور من حولي..

كلمة واحدة قالها معلّمي.. ولدٌ ذكيّ! 
كم غيّرت في تقديري لذاتي.
من أجلها عشقت الدرس، واكتشفت عالماً آخر أنا فيه مارد وبطل، أذكى وأقوى وأفضل من الجميع.

كنت أتلقّف بشوق ولهفة كل كلمة تقدير وإطراء، من أجل ذلك اجتهدت، من أجل أن يفخر بي الجميع ويبجّلني الجميع، ونجحت، فتبدّلت سنين المدرسة بعد ذلك لتصبح أقلّ إزعاجاً وأخفّ وطأة، وترافق ذلك مع جدّ في الشخصيّة والتصرفات، وعقلانيّة زائدة، لا لهو ولا عبث..

الله يرسل لنا الرحمات ولو كنّا صغاراً لندرك ذلك..
كلمة واحدة تداوي الجروح وتجبر الخواطر..

ذاك الفتى القبيح

لا يمكن أن تكون الأول في كلّ شيء ولا الأسوأ في كل شيء، ولا يمكن أن تحتفظ بأي لقب أو مكانة أو منزلة إلى الأبد، عرفت ذلك عندما وصل الفتى الجديد.
كان أطول من الكل ذو فم عريض مليء بالأسنان، مختلف عنّا، سمرة بشرته غير سمرتنا، ولسانه ذو لكنة غريبة، وأظنّه كان من بلد آخر غير بلدنا، فسرعان ما نال هو لقب القبيح.

بدا لي صيداً سهلاً، وأردت أن أسخر منه كما سخر الجميع، كم كان شعوراً لذيذاً أن تجد من هو أضعف منك لتفرغ كل ما انحشر في صدرك في وجهه، وتقتصّ لنفسك، ولكنني في الحقيقة لم أفعل!

وددت ذلك فعلاً، وددت لو سخرت منه، لكنني كلما اقتربت منه وجدته منزعجاً ومنكسراً، وغريباً وضعيفاً، ألست أعرف هذا الشعور وأمقته؟
ابتسمت له وتحدّثت معه وحيّيته، فبادلني الابتسامة سعيداً ممتنّنًا.
لا أدري لم تملّكتني سعادة عارمة، سعادة ربما فاقت سعادته، ألأنني ساعدته؟

فعل واحد قد يحيي إنسانا وفعل آخر قد يزيد من غربته، في ذلك اليوم اخترت أن أنتصر لهذا الإنسان ولو ببسمة، ولو بكلمة، وما زال هذا فعلي واختياري إلى اليوم.. 

02‏/04‏/2012

ثلاثون.. (3)

عالم جديد

تمضي السنين سراعاً في عالم الطفولة الذي ألفته وفهمته، وإنك لتظن أنك ملكت زمامه، لتجد نفسك فجأة وقد خرجت لعالم جديد، عالم أكبر من بيتك وحارتك وجيرانك..

المدرسة.. قبس صغير لعالم كبير..
فيه المتفلسفون والمنظّرون (أوائل الصف) الطموحون لكل منصب (رئيس الصف ونائبه) جهاز المخابرات العامّة (العريف السرّي وجماعة الفسّادين) أصحاب الحصانة المطلقة (ابن المدير وابن معلم اللغة العربية) وأرباب الواسطة (صديق ابن المدير المقرّب) ..
الكذّابون وأصحاب الشطحات.. من قفز بالأمس من علوّ ثلاثة أمتار ومن يملك أبوه مزرعة تقدّر بالملايين، المنافقون المدّاحون لكل معلّم بسبب وبلا سبب، بالإضافة لحفنة من البلهاء والأغبياء والمساكين والمثاليّين والنسّاك والفتوّات وأرباب المشاكل.. ولا ننسى الجبابرة والقياصرة من إدارة ومعلمين.. 

بدايتي مع هذا العالم لم تكن سارّة، فما هي إلاّ أسابيع قليلة حتى وقعت في يد الفتوّات والمتنمّرين الأكبر سناً وتعرّضت للضرب والتخويف، لم أقدر على صدّهم، واستسلمت في أغلب المواجهات وتراجعت باكياً..
شعرت بالخزي والعار وخشيت أن أتعرّض للّوم والاستهزاء لضعفي فلم أخبر أحداً عمّا أنا فيه، ابتلعت الحزن والخوف وكدّسته في داخلي..
الضعف شعور حقير..

النظّارة

في صباح ما لم يبدأ اليوم بالدّرس، بل بدأ بطابور طويل ينتهي لغرفة الفحص الطبّي.

دخلت الغرفة فتناولتني ممرضة مرعبة وسمينة، وجرتني بسرعة لعند الطبيب الذي تفحّصني من أعلى لأسفل ونظر إلى أسناني، ورفعني إلى الميزان، وأخيراً، أخضعني لامتحان مفاجئ لقراءة الحروف من بعيد، وفشلت في الامتحان.. لم أقرأ حرفاً واحداً..
وكتب الطبيب العلامة على الورقة: "بحاجة إلى نظّارة"..

حملت الورقة إلى والدي، وفي نفس اليوم ذهبنا لمحل النظّارات، وعدت بنظّارة بلاستيكية عسليّة اللّون..
حملتها معي إلى المدرسة وأخرجتها للدّرس، وما هي إلاّ لحظات حتى بدأت السخرية والاستهزاء، فهذا يراني أعمى وهذا يظنني بعيون أربع وذاك يصفني بالقبيح..

ألا يكفيني الضعف والجُبن؟ وأنا أيضاً قبيح؟
تباً لك أيتها النظّارة.. ماذا فعلتي بي؟ لتحلّ عليك اللعنة.. فليلعنك الله وليلعنك اللاّعنون!