24‏/05‏/2010

الآنسة كيّالة

 قصة الكيل بمكيالين...
ولدت الآنسة كيّالة في يوم ما من شهر نيسان، ويقال أن مواليد الربيع منفتحون ذهنياً ويتمتعون بذاكرة قوية لنقاء هواء الربيع وصفائه.
لكن الآنسة كيّالة وبعد ولادتها بحين، شُخّصت إصابتها بمرضٍ عضال، مرض يدعى ب " سبيل العارفين ".
لا تعرف حقيقة كيف أصيبت بهذا المرض، ربما هي عدوى انتقلت إليها من هواء غرفة الضيوف الملوّث بنسيم الكتب الكثيرة، والتي كانت تختبئ خلفها عند لعب "الاستغماية"، أو ربما هو مرض وراثي، ورثته عن والدها صاحب تلك الكتب الكثيرة.
لكن ما تعلمه وتجزم به أن لا علاقة لهذا المرض بحيّها الذي تسكن فيه، فقد كانت ومازالت تسكن أحد الأحياء العاديّة والتي كان كل أبنائها موفوري الصحة ولم يظهر أي منهم أعراضاً لذلك المرض، وحتّى مدرستها لم يكن لها دور في إصابتها، فهي لم ترتد إحدى المدارس الخاصّة التي تبالغ بالاهتمام بطلابها، بل على العكس ارتادت أسوأ المدارس وأقبحها، والتي بالرغم من سوئها لم تنجح في تخليصها من ذاك المرض العضال.

في الطفولة اقتصر ذاك المرض على الإنصات الجيّد والملاحظة الدقيقة للأشياء والفضول وكثرة السؤال والكلام، وبعد تعلّم القراءة والكتابة تعدّاه إلى قراءة الكتب بشتى الأنواع والمواضيع، وكان لقصص التاريخ حظوة لم يحظ بها غيرها من القصص.
كبرت الآنسة كيّالة وازداد المرض تفاقماً، تعدّى قراءة الكتب لقراءة كل لائحة عل جانب الطريق ومتابعة الوثائقيات التلفزيونية والأخبار التي لا يشاهدها إلاّ العجائز، واستفحل المرض أكثر وأكثر بمجيء شبكة الإنترنت.

في أحد الأيام وعندما كانت كيّالة ما تزال في المدرسة الإعدادية، ذكرت المعلمة شيئاً عن مسابقات القراءة والمطالعة، وبالطبع كانت كيّالة أول المتطوعين، وقرأت في ستة أشهر ما يزيد عن 120 كتاباً وقصة لتشارك في المسابقة، وبالطبع لم تكن من الفائزين، لكن ذاك الفعل زادها إدماناً وتعلّقاً بمرضها الذي بات لا يرجى الشفاء منه.
لم تتصور كيّالة يوماً أن يقال أمامها شيء ولا تعرف عنه، وإن حدث اجتهدت بالسؤال والبحث لتعرف وتعرف. وكم كانت تتبجّح بما تعرف، أحياناً كانت تلقى تشجيعاً من معلمتها ومديحاً من صديقتها فظنت ولو لحين أن ما أصابها قد لا يكون سوءاً، لكن الأيام كانت كفيلة بمحو كل الظنون.
مرّت الأيام.. وكبرت كيّالة وكبرت وتخرجت من مدرستها وجامعتها، ومازال المرض يرافقها، تغيب أعراضه أحياناً وتعود بشراسة أحياناً أخرى.

مرحلة جديدة في حياتها بدأت، إنها الوظيفة الحكومية.
في الوظيفة بحثت كيّالة عمن يشاركها مرضها ويؤنس وحدتها لكن لم تجد، كانوا كلهم أصحّاء، يطلع عليهم الصبح وتغيب عليهم الشمس وهم في "صحوة الجاهلين". حدّثتهم مرات ومرات عما تعرف، لكن أحدا منهم لم يعرف ما تعرف. منهم من لم يسمع بجيفارا ولا حنظلة، منهم من لم يعرف خرتشوف أو الملك هنري، جلجامش أو موبي ديك أو حتى بيل غيتس، فأنّا لهم أن يعرفوا " رسل كرو" !!
لم تستطع أن تبدأ معهم موضوعاً مهما في الحياة أو المجتمع أو التاريخ أو السياسة أو الاقتصاد.. لا شيء.. وأسفوا لحالها ورشقوها بالعبارات الجارحة، " أوف كل شي بتعرف فيه"، " حاملة ع ظهرها وزارة ثقافة"، بل وصل الأمر لاتهامها بالكفر والزندقة، فلا يجوز لأمثالها ممن يرتدون " الحجاب والجلباب " أن يقرأ شيئاً عن ماركس أو يشاهد برنامجاً عن "كيف مات مايكل جاكسون"، فأمثالها يجب أن تبدأمعرفتهم دوماَ ب قال الله وقال رسوله!
حاولوا شفاءها ومحو معرفتها بقصص تبدأ ب" شو طبخة اليوم"، لكن عبثاً حاولوا، وازداد شعورها بالغربة والمرض.
كانت تظن أن صحوة الجاهلين كانت تصيب موظفي الدوائر الحكومية بالذات لقلّة مدخولهم وكثرة أولادهم وأعبائهم ورداءة لباسهم، فالتمست لهم عذراً، وقرّرت أن تبحث عن عمل آخر إضافي في إحدى الدوائر الخاصة، تلك الدوائر التي يطلّ موظفوها بالملابس العصرية والسيارات الجميلة.
وعملت معهم لعامين، ولله الحمد! فإن أظهر بعض موظفي الدوائر الحكومية أعراضاً طفيفة لذلك المرض ، كان موظفوا الدوائر الخاصة أصحاء جداً جداً. إذاً لا علاقة للأمر بالمظهر!!

آثرت الآنسة كيّالة السكوت بعد حين، وبدأت تنصت لهم وحاولت أن تشاركهم في مؤامرة " كيف تكيدي حماتك؟"، " كيف تنتفي زوجك؟"، "كيف توقعي صاحبتك؟"، " كيف بينطبخ المسخّن؟".... لكنها لم تستطع، ووصلت حدّ الانفجار والانتحار.
 وفي غمرة البؤس خطر لها خاطر، تذكّرت عالماً أغرمت به منذ عامين أو يزيد، عالماً يدع ب " المدونات"، كانت تقرأ فيه وتستمتع، وفكرت لم لا أكون جزءاً منه؟ وقد أجد غيري من العارفين السّقماء يؤنس وحدتي. ولله الحمد فقد وجدت! 
بدأت مدونة بموضوع كان يشغلها ويقلق تفكيرها، " الكيل بمكيالين "، ولن تنسى فضل موظفي الحكومة ممن ألهموها بمواضيع شتى، بمؤامراتهم ونفاقهم وشخصياتهم المهزوزة والمريضة ووجوههم المتعدّدة.
بدأت بالكتابة، ووجدت الكثير من العارفين السّقماء ممن شاركها قصصها قراءةً وتعليقاً، بل كان بعضهم أشدّ سقماً ومرضاً منها، فلم تعد غريبة ولم تعد وحيدة، وارتاح بالها الآن.

لكن كيّالة وبعد شهور من بدأ المدونة، أدركت أمراً عظيماً، أدركت أنها تعيش رسميّاً بشخصيتين وهويتين، شخصية مقبولة اجتماعياً في مكان العمل، وشخصية مقبولة نفسياً خلف ستار المدونات. لقد أدركت كيّالة أنها ليست بأفضل حالاً ممن تكتب عنهم، فها هي (ذات وجهين)، وها هي ذا (تكيل بالمكيالين)، ولو اضطرت أحياناً فستكيل بالمكيالين والثلاث والأربع.
لكنّها ترجو منكم أن تلتمسوا لها عذراً، بالله عليكم ما كان عليها أن تفعل ؟؟
قد كانت وصلت مرحلة الجنون، وهي تعلم أن كلّ ما يميزها هو عقلها ومعرفتها، وإن ضاعت منها ضاعت هي للأبد...

15‏/05‏/2010

اثنان وستون

يوم النكبة... اليوم اثنان وستون عاماً مرت على يوم النكبة...


اصدقائي... اسمحوا لي اليوم أن اتطرق لموضوع مختلف لا علاقة له بمدونتي لكنه يستحق منّا الاهتمام والتقدير.

نكبة عام 1948م وتهجير أهل فلسطين، مصيبة حلّت على رؤوس أهل هذه البلاد الطيبة وكنت أنا والكثير منكم من ضحاياها. ربما لم أكن ضحية مباشرة لأنني لم أكن قد ولدت بعد، لكن والدي كانا وأورثاني ذاك الهم وتلك الذكريات.

عندما يحلّ يوم النكبة من كل عام تتزاحم في رأسي قصص وذكريات مليئة بالسجاذة والبساطة رواها أبي وأخوالي عن أهل قريتنا، كانت قصصهم دوماً تبدأ ب "أيام البلاد ..."، اذعاناً منهم أنها أيام ولّت ولن تعود وصارت مجرد ذكرى.

أتذكر في يوم النكبة "أيام البلاد" حيث كان أهل قريتنا يبحثون في أبسط الأمور ليخلقو الفرحة والبهجة، قصة رواها أبي عن جدّي يوم نذر نذراً عظيماً، نذر أن يكافئ أول ولد " بيُطبُش " ابنه، لأن في ذلك دليل على أن والدي " كبر و صار يلعب بالحارة "، وبالفعل تحقق النذر وضُرِبَ والدي من قبل أحد أبناء عمومته، فما كان من جدي إلا أن هرع نحو ابن أخيه واحتضنه وأخذه لدكان القرية و عبأ حجره بال "اللوز والملبس".

أتذكر في يوم النكبة قصة خالي الذي كان رجلاً جريئاً بما فيه الكفاية ليخطب عروساً من قرية أخرى ويترك بنات القرية يَبكِينه لأنه كان فرصة لا تعوض - على حدّ قوله - فقد كان هو الرجل الوحيد في قريتنا الذي امتلك شاحنة، ويوم عقد قرانه حمل نساء القرية على ظهرها إلى بيت العروس، وكان ذلك بالنسبة للكثيرمنهن ذكرى لا تنتسى فالكثير منهن لم تبتعد يوماً من حياتها لأكثر من حدود القرية، وحتى اليوم مازالت عماتي وخالاتي يذكرن هذا اليوم ويردّدن الأغاني التي غنينها طول الطريق.

أتذكر في يوم النكبة قصة إنشاء أول مدرسة ابتدائية للبنات في قريتنا عام 1940م، وكان للذكور مدرسة إعدادية بنيت قبل ذلك بكثير، وكم كان جدي متحضّراً إذ أرسل عمّاتي الثلاث للدراسة فيها، في حين رفض بعض رجال قريتنا هذا الأمر وقالوا: " عيب، تروح تتعلم تقرا وتكتب عشان تكتب للشباب مكاتيب! "، لو يعلم رجال قريتنا أنّنا صرنا اليوم نمتلك المدونات! كم تضحكني هذه القصة كلّما تذكرتها...

أتذكر في يوم النكبة الكثير الكثير من القصص وأهازيج الحصاد، لأناسٍ عاشوا بسطاء أكلوا مما أطعمتهم الأرض ولم يحملوا هموماً، ناموا ملء جفونهم كنوم الطفل في مهده، حتى جاء الغول الغاصب سرق بهجتهم فضاعت إلى الأبد.
أفاق أهل قريتنا ذات صباح على دويّ الطائرات الإنجليزية المروّعة، قصفت وحطّمت وهدّمت وقتلت، تريد أن ترهبهم لتخرجهم من أرضهم وليصبح الآمنون في بيوتهم لاجئين على مفترق الطريق.

أتذكر في يوم النكبة رجالاً أشاوس أتوا من مكان غير بعيد، من أرض الكنانة مصر الطيّبة، أتوا مع الجيوش العربية لنجدة قريتنا، واستقرّت عندنا حامية من الجيش المصري شهوراً تدافع وتقاتل الصهيوني وشريكه الإنجليزي.
أتذكر رجلاً مغواراً اسمه "البيه طه"، لقّّبوه بالضبع الأسود لسمرة بشرته وجسارة قلبه، كم روى أهلنا عنه قصصاً من الخيال أذاق فيها المحتلّ صنوفاً من العذاب.
أتذكر شاباً كان برفقتهم يدعى "جمال"، شاباً همام، قاتل وكافح، وبعد بضع سنين وإذا به يلقّب ب " سيادة الرئيس"، وكم تبجّح أهل قريتنا أنهم عرفوا الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً وأكلو معه من ذات الطبق.
وحوصرت قريتنا بأهلها وضيوفها ورغم صمودهم كانت المؤامرة أكبر منهم، وأجبرت الحامية على الانسحاب وأُخرج أهلنا ودمّرت قريتنا، وباتت اليوم مهجورة تتآكلها الحشائش اليابسة وتنعق في سمائها الغربان.

أتذكّر في يوم النكبة قصص الهجرة المروّعة وكيف مشت أمي على قدميها وهي بنت ثلاث سنين بجانب البحر تضرب الأمواج قدميها وتحكُّها الرمال حتى سالت منها الدماء، وكيف عانى أبي الفقر والعَوَز وتجرّع اليتم في مخيمات اللّجوء. وتمزّق أهل قريتنا أشلاءً في كل بلاد الأرض، وتباعد الأخ والأخت والجار والعمّ، ومنهم من قضى عمره يتمنى الّلقاء و جمع الشتات، ولم يبق له من من ماضيه شيء، غير أن يقول " أياّم البلاد...".

لقد استحقّ ذاك اليوم لقب " النكبة " بكل جدارة.

اليوم في يوم النكبة أصبح أصحاب الذكرى ذكرى، وصرت أقول أبي المرحوم وخالي المرحوم، لكن قصصهم مازالت معي، أحببت بها أرضاً لم أرها وتمنيت مثلهم أن تعود.

قد أصبح أنا مثلهم ذكرى قبل أن تعود هذه الأرض، ولا أملك إلاّ حفظ هذه الذكريات، وسأحمل على عاتقي أن أمرّرها لأبنائي المستقبليين، ليحبّوا هذه الأرض كما أحببناها أنا وأجدادهم، ولعلّهم يكونون أفضل حالاً منّا ويشهدوا تحريرها، فيرووا قصصاً أخرى لأبنائهم، قصصاً تبدأ ب " لمّا رجعنا عالبلاد..."

تــصـبـحــــون علـــى وطــــــن...



07‏/05‏/2010

( ذكور و إناث ) ... خلّيها تموت

أعزائي، في المرة الماضية تحدثت عن حبّ إنجاب الذكور وتفضيلهم، وبعد أن انتهيت، تذكّرت حادثة واجهتها قبل سنوات وأنا ما أزال طالبة في الجامعة، وهي ذات علاقة بالموضوع لذلك أحببت أن أشارككم بها. على فكرة القصة حقيقية وليست من نسج الخيال.

كنت طالبة في جامعة العلوم والتكولوجيا الأردنية، ولمن درس منكم في هذه الجامعة أو زارها يدرك بعد المسافات بين المباني وكبر حجم الجامعة، مما يضطرّ الطالب لركضٍ ماراثوني من مبنى لمبنى للحاق بموعد محاضرته. و 
في يوم من الأيام وعندما كنت في السنة الثانية أو الثالثة لا أذكر بالضبط ، خرجت من إحدى قاعات المحاضرات بسرعة لاتوجه لمحاضرة أخرى في مبنى آخر، فإذا بي ألمح الباص المخصّص لطالبات السكن المقيمات داخل الحرم الجامعي، وبالرغم أنني لم أكن من طالبات السكن إلاّ أنني ركضت وبأقصى سرعة لأركب الباص وأكسب "توصيلة" مجانية وسريعة لمحاضرتي. 
قفزت داخل الباص وكان ممتلئاً ونجحت في أن "أدحش حالي" على درجات الباص الذي كان سينفجر من كثرة البنات ولكن لا بأس المهم التوصيلة، و قبل أن تثبت قدمي على درجات الباص بدأ الباص بالحركة فانكفأت للوراء وكدت أن أسقط  لولا أن قامت إحدى الطالبات بإمساكي من يدي وإنقاذي.

نظرت هذه الطالبة لسائق الباص وقالت: " على مهلك عمّو، ليش مستعجل؟ البنت كانت راح تروح "
فردّ السائق: " خليها تروح، أكيد في غيرها "
لن أخفيكم فقد ضحكت بداية على تعليق السائق، فما كان يعنيه أنّ هناك بنات غيري في البيت وأنني حتى لو مت فهناك من يسدّ مكاني، وفي الحقيقة لم يكن السائق مخطئاً فلي من الأخوات ست!! 

لكن يا ليته توقف عند هذا الحد، فقد أكمل قائلاً: " أنا عندي أربع ولاد وبنت، ما أنا مصدق على الله وتموت "
في هذه اللحظة فزعت ولم أتصور أن يتكلم أب هكذا عن أولاده، فكان لا بد لي من أن أتكلّم وأدافع عن بنات جنسي، فقلت:  " حرام عليك يا عم، ليش بتحكي هيك؟ البنات بيدخلو أهلهم الجنة "
فنظر لي ساخرا وقال " آه الجنة، من وين لوين "
فردّت تلك الطالبة التي أنقذت حياتي " علّمها وربيّها كويس وبتدخل فيها الجنة "
لم يرد السائق لكنه نظر نحونا بنظرة قاتلة ممزوجة بالكراهية والاشمئزاز فآثرنا السكوت خوفاً من أن نموت بحادث أليم  جراء إلقائنا من باب الباص أو أحد شبابيكه. 

كلّما تذكرت هذه الحادثة شعرت بالحزن، فالمسألة ليست حب إنجاب الذكور وتفضيلهم فقط، لكنها تتعدّى ذلك لكره البنات، وكأننا عدنا للجاهلية الأولى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن واطعمهنّ وسقاهنّ وكساهنّ من جدّته كنّ له حجاباً من النار يوم القيامة)).
و قال : ((لايكون لاحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن اليهنّ إلاّ دخل الجنة)) .
فلله درّك يا رسول الله ما أبلغك. فلقد قلت "صبر عليهن"، فقد كنت تعلم أنك ستخلّف وراءك أقواماً لا صبر لهم على بناتهم، بل وقد يتجرّدون من كل عاطفة تجاههن.

أعزائي، منذ اليوم الأول الذي بدأت فيه هذه المدونة قلت لكم أنني لست بصدد إصدار المواعظ أو الحكم أنا فقد أريد أن أتحدّث وأنفس عمّا في داخلي، لكن اسمحوا لي هذه المرة بأن أتوجه بهذا الرجاء:
" يا ذكور العالم رفقاً بنا، فنحن والله خلق الله مثلكم، نستحق الحب والتقدير والإحسان، فإن لم تكن دعوة رسول الله لكم  بحسن صحبتنا تكفيكم، فما الذي يكفيكم؟ "

تصبحون على خير.

01‏/05‏/2010

( ذكور وإناث ) عظّم الله أجرك وأحسن الله عزاءك .. المدام جابت بنت

تنويه: قبل أن أبدأ، أعلم أن موضوع الكيل بمكيالين فيما يخص الذكور والإناث موضوع مبتذل و قد كثر الحديث عنه، لكنّه ما زال يزعجني، لذلك سأكتب عنه...

خلف أروقة المستشفى البيضاء وفي إحدى الغرف في قسم المواليد، كانت هيفاء على سرير الولادة تكابد آلام المخاض وتصرخ بأعلى صوتها.. يارب.. يارب.. ترجو منه أن يهوّن عليها وينتهي هذا الأمر بسلام. وبعد عدّة ساعات من المعاناة أنجبت، حمل الطبيب الطفل من ساقيه مقلوباً ورفعه عالياً في الهواء، نظرت هيفاء إلى الطفل ولم تصدّق عينيها، رفعت ظهرها وجلست رغم آلامها وأمعنت النظر، لقد لمحت هيفاء شيئا في وليدها، لمحت تلك العلامة الفارقة التي تميّز الذكور عن الإناث، وأدركت أنها قد أنجبت ولد.. ولد..، أرادت أن تصرخ بأعلى صوتها ولد.. ولد.. لكن الكلمات لم تسعفها، وإذا بها تطلق زغرودة مدوية مجلجلة إهتزت على أثرها جدران المستشفى.
نظر الطبيب باشمئزاز تجاه هيفاء وقال: " عيب عليك "، فيما أغرقت الممرضات في الغرفة بالضحك، لكن هيفاء لم تهتم، فهم لا يعلمون.
لا يعلم الطبيب أن هيفاء أنجبت 4 بنات في 4 سنوات متتالية قبل هذا الولد، وإن لم يكن ولداً فكان لزاماً عليها أن تمرّ بتجربة الحمل مرّة أخرى في العام التالي دون مراعاة للمتاعب التي يمر بها جسدها أو الكآبة التي تغلّف نفسها بعد كل بنت تنجبها. الآن يمكن لهيفاء أن ترتاح قليلاً. ترتاح من ضغط زوجها و من كلمات حماتها اللاّذعة ومن نظرات الأسف والشماتة ممن حولها، الآن آن لهيفاء أن ترتاح قليلاً.
على فكرة، هيفاء تحمل درجة البكالوريوس و تعمل معلمة مدرسة، وزوجها يحمل درجة الماجستير ويعمل في شركة مرموقة.

في الغرفة المجاورة كانت الممرضة منى تمرّ بتجربة الولادة لأول مرّة، فقد تزوّجت منى قبل عام واحد من أحد الممرضين زملائها في المستشفى وهذا هو وليدها البكر، في الخارج كان ينتظر زوجها وأمها وحماتها وأخوات الزوج والزوجة " قبيلة" من المنتظرين لهذا الحدث الجلل. خرج الطبيب من الغرفة وقال: "مبروك.. عروس"، اصفرّ زوجها، وصرخت حماتها غاضبة: " كيف بنت؟ احنا اعملنا تصوير والدكتور حكالنا ولد، وين الولد؟ ".
حاول الطبيب أن يهدّأ من روعها ويقنعها أنّ التصوير قد لا يكون دقيقاً وأن هذا هو الواقع لكن دون جدوى، بل زادت في الصراخ وبدأت تنعته بأقبح الألفاظ وتسبّه وتسبّ المستشفى وعملت " فضيحة "، فما كان من الطبيب أن ركض هارباً ونفد بجلده.

الدكتورة سميحة أستاذة جامعية، أنجبت ولداً واحداً والكثير من البنات، زوجها أحمد رجل أعمال مرموق، كانت أمه دائماً تأسف لحاله وتقول أمام الناس: " مسكين ابني أحمد ما عنده عيال"، على اعتبار أن بناته الكثر لا يعتبرن شيئاً.
زارت الدكتورة سميحة المستشفى ذلك اليوم، وتوجهت صوب غرفة الفحص، أرادت أن تستشير الطبيب في محاولة إنجاب جديدة، فعلى الرغم من أن عمرها قد جاوز ال 46 عاماً، إلاّ أنها مازالت تطمع في إنجاب أخٍ لابنها .

رانيا موظفة الاستقبال في المستشفى، تضع سماعة الهاتف على أذنها وتحدّث بنت خالتها، " مبارح رحت أنا و إمّي نشوف عروس لأخوي، والله حلوة وماشي حالها بس ما عجبت إمّي، العروس إلها 7 خوات غيرها فإمّي حكت ما بدنا إيّاهم هدول خلفتهم كلها بنات.."

أصدقائي الأعزّاء قرّاء هذه المدونة كنت أظنّ أن الناس يتغيرون، لكن علّمتني الحياة أنهم لا يتغيرون و لن يتغيروا، سيظلّ حبّ الذكور هو الغالب، وأمام حبّ الذكور تتحطّم الشهادات والأفكار ويتحطّم المجتمع، لا أدري ما السبب؟ هل جُبِل الناس على تفضيل الذكور؟ لا أدري.. لكني أعلم شيئاً واحداً، أن هذا الأمر واقعٌ وباقٍ ولن ينتهي في زمن قريب.. ورغم كل المحاولات في تعليم الناس أن انجاب البنات في الحقيقة هو مسؤولية الرجل لا المرأة، ورغم كل التعاليم الدينية والبرامج الحوارية والثقافية التي تدعو الناس لبرّ البنات والاحسان لهنّ ونبذ ثقافة المجتمع الذكوري لكن لا جدوى.

قبل أن أنتهي، سأحدثكم عن هيفاء، تذكرونها؟ تلك المعلمة المزغردة التي ظنت أنها سترتاح؟ بعد أن استعادت عافيتها وبدأت باستقبال المهنّئين، دخل عليها زوجها وقال لها: "يلاّ اتشطّري السنة الجاية وجيبيلنا أخوه ..."