26‏/09‏/2012

قمر.. (10)

الخبر صحيح؟ أهناك حرب؟ تواترت الأنباء عن قتل ونهب واحتلال..
يقولون أنّ للإنجليز يداً في هذا الأمر.. واليهود ماذا فعلنا لهم؟ أليسوا يسكنون هنا مذ بدأ الزمان؟ ماذا يريدون؟
يقول البعض إنهم قطاع طرق.. مجرّد قطاع طرق! مستحيل ما تقولون!
وهذا التسلح في المعسكر الإنجليزي؟ والمدد الذي أغرق المكان بين ليلة وضحاها؟ سيقاتلوننا حتماً..
إذاً سنقاتلهم.. بم؟ كم واحد منا يملك سلاحاً؟ ولو؟ بالعصي والحجارة والأيادي.. وهل تجدي نفعا أمام هؤلاء؟

الخبر صحيح إذاً! وإلاّ.. لم جاء إخوان لنا من العرب يحملون السلاح؟ من عراق وسعودية ومصر وأردن وشام.. من مكان نعرفه ومكان لم نسمع عنه قط.. افسحنا لهم مجالاً في القرية.. سيفدوننا بأرواحهم.. باسم الأخوة.. باسم العروبة.. باسم الدين..

اشتبكنا مع العدو حول معسكره على أطراف القرية.. لن يدخلوها سالمين.. صمدنا زمناً وألحقنا بهم المتاعب والمخاسر..
ضربوا علينا حصاراً.. شهراً تلو شهر.. من قال أن الحصار يجدي نفعاً مع الفلاّحين؟ من مثل الفلاّح يجيد صنعة الخبء والادخار؟  ما زلنا صامين.. لن يدخلوها سالمين..

ما هذا الطنين الذي يصمّ الآذان؟
في السماء قادم غريب.. عرفها جنود العرب.. طائرة مقاتلة.. ما عساها تفعل بنا؟
بدأت تقذف النار.. بلحظة فارت الأرض غباراً ورماداً ولهيباً.. حرّقت المكان.. في الغالب استهدفت جنود العرب.. ونكّلت بهم أيّما تنكيل!
ما الذي جرى للتو؟
غابت الطائرة وخلّفت طقطقة لهيب مستعر.. ونشيج بكاء خافت.. هرع الناس كالمصروعين ليتفقدوا بعضهم.. قمر وعلي وأولادهم.. الكل بخير..
ركض علي صوب بيت عبدالله.. لم يجده.. كان في حقله.. الحقل فارغ.. ركض يمينا وشمالاً كالمجنون.. قال أحدهم.. كل من كانوا في الحقول لجؤوا لمغارة قريبة.. ركض صوب المغارة.. أمن جوارها يتصاعد هذا الدخان أم منها؟ يالله! المغارة ركام.. وتحت الركام؟ انقضّ الرجال عليه يدفعونه مرتجفين.. وانحسر الركام عن أشلاء..
يا ويلتاه! يا عبدالله!

23‏/09‏/2012

قمر.. (9)

يقول البعض أن النـّحس يسقط بعد الرقم أربعة.. والبعض يقول أنه يسقط بعد الرقم خمسة.. البعض أصرّ أن الرقم هو بالتأكيد ثمانية.. نعم ثمانية.. لكن.. بالنسبة لقمر.. فقد استبقت كل التوقعات.. ثلاثة.. فقط ثلاثة.. 

ثلاث بنات فقط.. والرابع ولد! ولد.. ولد.. أخيراً.. جاء الولد.. فرحة علي لا توصف.. فرحة أبلغ من نشوة الانتصار في معركة!
والصبي حصد جمال أمّه وكل جدّاته وأجداده الذين سبقوه.. حتى أن عمّه عبدالله قال مشكّكاً.. من وين جايبين هالولد؟ لتكونوا سرقتوه من عند النّجليز؟ اتق الله يا رجل! ألم تعلم من هي أمّه؟ 

وكما قال المثل.. الزين ما بيكمل.. فإن نكد هذا الصبي محى كل أثر لجماله.. كان بكّاءاً.. ليلا ونهارا.. أضجر أهل بيته وكل الجيران.. أغاظ والده وأرهق أمّه.. لم يعرف أحدٌ ما باله.. ممسوس؟ محسود؟ أم أنه ورث عقل أخواله الصّدئ؟ طبعاً هذا كان رأي علي..
وصلة البكاء لم تكن لتتوقف إلاّ لمصّ الحليب أو لغفوة هاربة.. ويعاود هذا المغضوب البكاء..

وجب فداؤه بإسالة دم.. ذبح عليّ كبشاً ذهب بكلّ ماله.. لا بأس! فداؤك.. لكن اسكت! ما أنا بساكت!
أنجدني يا أبي.. إليكِ الخرز والتمائم.. وصلّي واستنجدي بالأجداد.. عبثاً تحاولون.. 
قال شيخ المسجد.. الولد زعلان من اسمه.. اسمه مش على هواه.. شو سميتوه؟ أسميناه عبدالله على اسم عمّه.. لا بد من تغيير هذا الاسم.. ماذا تقترح لنا؟ اسموه محمد.. على اسم نبيّنا محمد..
هل هي الصدفة؟ أم الحظ؟ أم أنّ الأمر حقيقة؟ لا ندري.. إلاّ أن الكلّ قد أجمع على أن هذا الولد صار أهدأ.. 
لكن..
إن كان هذا الولد قد هدأ فإن غيره قد رفع اللواء.. بدا الأمر وكأنه وباء.. كلّما ولد طفل لم ينقطع عنه البكاء.. والناس في حيرة.. ما الذي حلّ بنسل هذه القرية؟
إنّ العويل ليملأ المكان.. وصدى البكاء صار يخرج من الأرض ويهبط من السماء.. ما الذي يراه الأطفال ولا نراه؟
الحزن يلفّ المكان.. وتراءى للناس شعور غامض.. شعور ليس بالجيّد.. شعور ينبئ أن أمراً ما سيحصل.. وهو حتماً ليس بخير..

16‏/09‏/2012

قمر.. (8)

أربعون عاماً خلت من قرن مضى.. والعالم كما نعرفه قد تغيّر..

هناك مدرسة للبنين وأخرى للبنات.. وعيادة طبية.. ودار للبلديّة.. وصار للناس وثائق يتعاملون بها.. وازدادت الآبار.. وصلحت الزراعة.. وأخصبت الأرض.. وأخصبت البيوت.. و زاد العيال وطالت أعمارهم..

ولعبدالله اليوم خمسة صبيان وصبيّة.. ولعليّ ثلاث صبايا.. زينب.. والتي تضاهي أمها جمالاً.. هاجر.. صوت العقل في العائلة.. و زهرة المدللة.. والتي في الغالب لا تصلح لشيء..

لكن شيئاً واحد لم يتغير.. ولا أمل في أن يتغيّر.. ما في نفس علي تجاه خاله.. ما زال عليّ غاضبا رغم السنين.. وما زال يرمي ما في نفسه في وجه قمر كلّما سنحت الفرصة.. وما زالا يتشاجران.. هو لا يطيق أبوها.. وهي لا تطيق إهانة أبيها..
وما زال عليّ يبحث عن مخرج مما هو فيه.. حتى وجد..  

أقيم معسكر إنجليزي على أطراف القرية.. ودعا المجنّدون الشقر الفلاّحين للعمل لديهم.. هم بحاجة لعمالة.. من ينقل أحجاراً.. ويساهم في شقّ طريق.. حتى أن البعض تكلّم عن بناء مطار للطائرات! 
والأجر.. لا بئس به.. قرشان أو ثلاثة لليوم.. وبإمكانك أن تشتري ما تريد.. فبالمال تشتري القمح والعدس بدلاً من أن تزرعهما..
أدار عليّ الأمر في رأسه.. واتخذ القرار.. قال لقمر..
- راح اتركلكم الأرض اشبعوا فيها.. خلي أبوكي وأخوكي يزرعوها بدل ما هم شاطرين يضحكوا عالناس..
اللعنة! كيف يتجرّأ على والدي هكذا؟
وتشاجرا من جديد..

لم يلق لها علي بالا ونفـّذ ما في رأسه.. وهكذا توقف فجأة عن الذهاب لأرضه..
وماذا عسانا أن نفعل.. قد جُن الرجل.. وسيغضب أبي كثيراً.. أعينيني يا أمّاه!
قالت فاطمة.. إن حماقات الرجال كثيرة.. دعيه وما هوى.. فليفعل ما يريد.. لاتصعّدي الأمر.. فلربّما غضب وطلقك! دعي خلافات الرجال للرجال..

ولمّا علم والد قمر أسرع للحقل فلم يجد عليّا.. وأسرع لبيته فأكدت قمر الأمر.. وغضب كثيراً.. واعتبر الأمر عصياناً.. لكنّ علياً ببساطة.. لا يأبه لغضب أحد.. وخاله لن يكلّمه حتى يعود عمّا فعل.. وهو لن يأتمر بأمر أحد..
وهكذا.. توقفا عن الكلام.. وستدوم هذه القطيعة عدد سنين!

11‏/09‏/2012

قمر.. (7)

كلّه منوط بموافقة الشيخ حتى يتمّ هذا الزواج.. ليس الشيخ والد قمر من نعني.. بل الشيخ الذي يصلّي بالناس ويزوّجهم.. شيخ من نوع آخر.. 

المسألة كالتالي.. إن شعر الشيخ أنّ الفتاة صغيرة.. فسيرفض عقد القِران.. وقمر فتاة نحيلة ضئيلة الحجم.. هي أقرب للقصر منها للطول.. فماذا علينا أن نعمل؟
احتارت فاطمة.. وفكّرت ثمّ فكّرت.. ثمّ قدّرت.. عليّ أن أجعلها تبدو كبيرة.. ألبستها ثلاثة أثواب.. فوق بعضها البعض.. وشدّت خصرها برباط.. فانتفخ أعلى الثياب.. وبدت وكأنها مكتنزة الجسم ممتلئة الصدر.. لا بدّ للحيلة من أن تنجح!

ومنذ متى عجزت النساء؟ بالطبع.. أثمرت الحيلة.. وعُقد القِران.. 

والآن الاستعدادات على أشدّها.. وعلى فاطمة أن تتفاخر بكل شيء حتى النهاية.. جمال قمر.. ومهرها الغالي.. وكساؤها.. وضعت ثيابها وفرش دارها في عربة تجرّها الدّواب.. وزينتها بالورود.. وتبعت العربة وهي تغنّي.. وجمعت حولها النساء يغنين حتى بيت العروس.. وأشهدتهنّ على فرش الدّار..

وقمر سعيدة جدّاً.. لا تكاد قدماها تحملانها.. ولمّا ارتدت ثوب الزّفاف بدت فاتنة جداً..
أحضرت فاطمة ورقة بالية وإبرة.. وانهالت على الورقة ثقباً.. من عين أمك وأبوكي.. ومن عين علي وحسن.. ومن عين عبدالله ومرتو.. ومن عين خالتك حليمة وخالتك مريم.. ومن عين جارتنا أم عادل.. ومن عين.. ومن عين.. ثقبت فاطمة كل عيون القرية.. ثمّ احرقت الورقة.. زال الشّر الآن..
و زُفّت قمر لبيت عريسها.. ونالت زفافاً كما تحب وترضى وتتمنى..

لمّا جنّ الليل.. شعرت قمر بالغربة وأجهشت بالبكاء.. ولمّا حلّ الصباح قرّرت قمر العودة للبيت!
عبثاً حاول معها عليّ.. لأنّها داومت على العودة..
حسناً.. كيف نقول هذا ولا يصيبنا شيء من الإحراج.. قد احتاجت قمر عدد سنين حتى تنجب الأولاد..

تدخّلت فاطمة.. يا حبيبتي يا قمر ترى كلنا عُفنا أهالينا.. هيك هي الدنيا..
لا سميع ولا مجيب..
اتخذت فاطمة موقفاً حازماً وأمرتها بملازمة بيتها.. لا تخرج منه دون إذن عليّ.. وإلاّ..

نظرت له بعينين ذابلتين.. واستأذنته بالذهاب.. رقّ قلبه.. وسمح لها اليوم بالذهاب.. وسيسمح لها غداً.. وبعد غد..
وسيصبر علي كثيراً..
كان الله في عونك يا علي!

08‏/09‏/2012

قمر.. (6)

غمّة وكآبة تلف عليّـاً منذ شهور..
هل حزن لأن عبدالله قد سبقه إلى الزواج؟ أم شعر بالغيرة؟
- هم مفكرين إني زعلان لإنه عبدالله تزوج وأنا لأ.. بس أنا مستفقدله لعبدالله!
بهذا أسرّ علي لقمر.. فأومأت برأسها موافقة.. هي أيضاً تفتقده! 

علينا أن نطمئن باله.. فهو سائر صوب هذا الطريق لا محالة.. 
علي.. أنت غال ٍعلي.. سأزوّجك أحلى البنات.. سأعطيك قمري.. فقط انتظر عامين أو أقل بقليل.. حتى تكبر قمر..
استعدّ من الآن.. ربما انشغلت بإصلاح بيت والديك.. ابتسم علي.. على أمرك يا خال.. 

 فرحت قمر وتأهب علي.. ودون أن نشعر.. مضى الزمن.. وحان الميعاد.. وناداه خاله من أجل حوارٍ جادّ..
- بتعرف يا خالي إنه قمر غالية علي.. ما كنت راح بعطيها لأي حد.. وبنتي الغالية مهرها غالي.. وبتحكي فيه الناس.. الأرض اللي ورثتها عن أهلك..

اصفرّ علي لهول ما سمع..

- ما تخاف يا خال.. ما الأرض بتظل في عيلتنا وإنت اللي راح تزرعها..

كان عاجزاً عن النطق ولو بكلمة..

من أجل من سأزرعها؟ من أجلي أم من أجلك؟
ثمّ كيف تكون أرض أهلي مهراً لابنتك؟ هي ليست غالية لهذا الحد.. أنت ببساطة تريد الاستيلاء على أرضي.. 
لكنّ خالي رعاني في يتمي وأنفق علي.. تباً! لم ينفق علي.. ألم نعمل سنيناً ونـَطـْعم جميعاً من كدّ هذا الحقل..
ماذا عساني أن أقول؟ لخالي فضل علي.. بل كانت رعايته لي واجبة.. تبا! ألا أتزوّج أي بنت أخرى؟

ما زال عاجزاً عن النطق..
فتركه خاله حتى يفكّر بالأمر..

شعر بالاختناق.. عجز عن النوم.. وقبل أن ينفلق الصبح كان أمام بيت عبدالله.. أسرّ له بالخبر.. علّه يجد له مخرجاً..
لم ينزعج عبدالله ولو نصف انزعاج علي.. وماذا عسانا أن نقول لخالي.. وكيف نتجرّأ على أن نرفض طلبه؟ ومنذ متى يتجرأ الأبناء على والديهم..
تباً له.. ليس بوالدي.. وتباً لك.. أليست أرضي وأرضك؟
أم لأنك تزوّجت أرضاً وبيتاً ما عاد شيء يهمّك.. أحمق.. بعت نفسك لحموك..

غادر عليّ على غير هدى وغشاوة تعمي بصره وغمّ يثقل صدره.. وألقى بهمّه على فأسه.. وانتقم من تراب أرضه..

في المساء كلّمه خاله بالأمر من جديد..
ما زال عاجزاً عن النطق.. مع أنه يريد أن يقول الكثير..
لم يعرف ماذا وماذا سيقول.. لكنّه يعرف ما وجب عليه أن يقول..
استجمع شجاعته.. وببعض كلمات نطق..

على أمرك يا خال..

ثمّ هرع إلى خارج الدار.. واغرورقت عيناه بالدموع..  

05‏/09‏/2012

قمر.. (5)

في بيتنا فرح.. والعرس عرسنا..
من أجل ذلك طرّزنا الثياب.. ونقشنا الحنّاء.. واكتحلنا..

عبدالله راغب في الزواج.. وما كانت أي امرأة لترفضه.. فتيّ.. بهيّ الطلعة.. حلو المنطق.. مجدّ في العمل.. والأهم.. قرابته من الشيخ.. نسبٌ لا يفرّط فيه أحد..
عبدالله راغب في الزواج.. من امرأة محدّدة.. فعبدالله يجيد التخطيط للمستقبل.. يتيمة مثله.. لها ولأمها بيت وأرض.. ولا وريث آخر ينازع!
بإمكانه أن يسكن بيتها ويزرع أرضها وكل ما لها.. له في النهاية..
بالطبع وافق خاله! أما زوجة خاله.. فاطمة.. فأسرعت إليها خاطبة..

في بيتنا فرح.. والعرس عرسنا..
في الليلة التي سبقت الزفاف.. ارتدت أمّي غطاءً للرأس بهيجاً.. خيطت فيه قطع فضّية انسدلت حول وجهها.. وعدتني أمّي أن يكون لي مثله يوم أتزوّج..
خرجت أمّي وعلى رأسها صينيّة من قش مجلّلة بالزهور والعطور وأوراق الليمون تحمل صُرراً من حنّاء.. ودقّت الأبواب.. وزّعنا الصّرر على النساء.. وحملنا المشاعل.. وسرنا وغنّينا حتى بيت العروس..
ارتدت العروس ثوباً مطرّزاً بالحرير.. وتزيّنت بالذهب.. وشرعت النساء بتحنئة يديها وساقيها.. رقصٌ وغناء وسهر..

ويوم الزفاف.. استحمّ عبدالله ولبس جديد الثياب.. وعطّرته أمّي بالبخور.. امتطى صهوة جوادٍ مزيّنٍ بالمناديل الملونة والورود.. 
يُزف العريس إلى عروسه في موكب هازج.. يعبر الموكب كل أنحاء القرية ويحشد الناس.. يتقدّم الحدّاء الرجال.. وتليهم النّساء.. يغنّون ويرقصون.. حتى يصل العريس عروسه.. لهما عرسٌ وفرح.. ولنا بهجة ومرح..

عقبال علي يا فاطمة.. بهذه الكلمات اختتمت النساء الليلة..
ومتى يتزوّج عليّ يا أمّاه؟ يوم تتزوّجين أنتِ.. يوم أتزوّج؟
الله الله! متى أتزوّج؟
أخذت قمر تحلم بيوم الزفاف.. يوم تتزيّن بالحنّاء وتغنّي من أجلها النساء..
لكنّها غفلت عن السؤال الأهم..
لم يكون يوم زفافها هو يوم زفاف علي؟