26‏/02‏/2011

قيس من المريخ... وليلى من عطارد...

كان يا مكان في سالف العصر والأوان..
قصة عشق أبدية اشتعلت في هذا المكان..
في مضارب بني عامر وتحت لهيب شمس الصحراء الحارقة..  
ولد قيس وكان الابن الأكبر لعائلته.. 
وولدت ليلى..ابنة عمه..البنت التاسعة لعائلتها...

لعبا سوياً في طفولتهما.. خلف الأشجار وبين الأحجار..
ركضا سوياً خلف الماعز...
لطّخ قيس وجهها بالطين.. وعادت لأمها باكية..
ضحك الكبار وقالوا.."العب معاها ودير بالك عليها.. يمكن بكرة تكون من نصيبك"..
فرد قيس بكراهية تقليدية تجاه بنات هذا العمر..."يييييع.. ما بدي اياها.. هاي زنخة"..
لكن وما أدراك يا قيس؟ ما أدراك ما تخبئ لك الأقدار؟

كبر قيس وليلى بسرعة ودون أن يدركا ذلك.. وفي ذروة البلوغ وقع قيس في غرام الكثيرات.. لكنه كان حباً هزيلاً ولم يدم.. قرّر الاحتفاظ بحبه حتى حين.. انتظر التي ستهز قلبه هزاً.. وكبح جماح حماسته وقتاً.. وامتثل لأوامر والده الملوّح.. "يا با ركّز على دراستك وبلاش همالة.. بدنا اياك تتخرّج وتتوظّف وتشرّفنا.."    

يتخرّج قيس ويحصل على عمله الأول وراتبه الأول فالثاني فالثالث.. تطرق مسامعه عبارة ممتعة "خلص صار لازم نجوزك".. تحمّس لها.. عادت له حماسة الشباب التقليدية.. 
ظلت هذه العبارة تلوح في الأفق.. وبعد زمن ليس بقصير اتخذ قيس القرار ووضعها حيز التطبيق.. وحصل على العرض الأول .. "إيش رايك في بنت عمك ليلى؟ والله ما بنلاقي أحسن منك يا عم.. إنت منا وفينا".. بدا العرض مغرياً.. وتذكر أيام الطفولة الجميلة..

كانت المصلحة متبادلة.. فجمال ليلى بالكاد سجّل ثلاث درجات فاصلة أربعة على مقياس رختر.. وقيس سيضمن الحصول على عروس "رخيصة" وعمّه "راح يراعيه عالآخر".. أضف لذلك أنها منتجة كونها "موظفة".. فكّر قيس... على بركة الله...
يهديه أبوه ألف دينار ويسكنه منزلاً من غرفتين بمنافعهما في الطابق الثاني.. تبيع أمه ثلاث من أساور الذهب ذات العيار الثقيل مع قرض بنكي لخمس سنوات.. الخطبة هذا الصيف والزواج في الصيف المقبل...

ليلى حامل منذ الليلة الأولى للزفاف.. تسعة أشهر وتضع وليداً.. أربعون يوماً حامل من جديد.. حليب حفاضات "واع ويع" مركز صحي ومستشفى.. أزمة مالية وارتفاع حجم المديونية..
احتاج الاثنان لوليدين ليدركا بأن عليهما أن يضبطا الأمور أكثر..
مشاكل من هنا وهناك.. لكن ما زال الحب عامراً وفتياً وقوياً..

ليلى تريد سيارة.. وقيس يستهجن "من وين بدي أجيبلك؟".. ليلى مصرّة.. "خلص بيعي ذهبك واشتري سيارة".. "أي ذهب؟ ليش إنت جبتلي إشي؟ ما إنت أخذتني ببلاش!!"... " هاد اللي طلع معك يا بنت العم؟.. مش بكفي جبرت عليك واتجوزتك... صحيح تكفرن العشير"..." الله ياخدك.. طلقني"... يخرج قيس من المنزل وكأنه لم يسمع شيئاً... خلافات تقليدية وتستمر الحياة.. ويتصالحان كثيراً ويتعاركان كثيراً..

قبل نهاية العقد الأول من الزواج.. تطرح ليلى مقترحاً.. علينا أن نمتلك بيتنا الخاص.. قرض بنكي جديد لعشرين سنة قادمة وسنمتلك بيتنا الخاص.. يعارض قيس وكيف سيترك بيت والديه.. وتغضب أمه.."بدك تقطعيني من إبني".. هنا تبدأ الحرب الحقيقية...
مشادة كلامية فرمي للأغراض وصفعة على وجه ليلى... ليلى "حردانة بدار أبوها".. وتترك له الطفلين في عهدة والدته.. "زعلة" بين الأب والعم وانقسام داخلي في القبيلة.. تضيق أمه ذرعاً بالأولاد.. ويضيق هو ذرعاً من نقص التمويل.. فليلى احتفظت براتبها طول فترة "الحردان"..

الحل بسيط ويرضي جميع الأطراف.. هذا ما اقترحه حكم من أهله وحكم من أهلها... 
قرض لتوسعة بيت الطابق الثاني وتحصل ليلى على منزلها وقيس يلازم أهله.. "باسم مين راح يتسجل البيت؟".. تعترض ليلى.. " باسامينا احنا الثنين.. ما أنا بشتغل وبصرف عالبيت زيّه".. تصرّ ليلى.. ويوافق قيس على مضض..

يموت والد قيس ويترك له إرثاً ثقيلاً.. أمه وشقيقتين لم تتزوجا.. ويتضاعف حجم الإنفاق.. مصروف خاص لأمه وأخواته.. وليلى تغلي.. تحاول أن تبقى صامته وما باليد حيله.. لكنها تصرخ من وقت لآخر.. "ما أنا بصرف عاللّي  خلّفوك".. تنزح أمه من بيتها إلى بيته لأسابيع وشهور.. حرب أهلية.. "وبعدين معاها أمك".. صار الوضع لا يطاق.. يهرب قيس كل ليلة لمضافة بني عامر حتى ينتصف الليل..
لكن ورغم كل الأزمات والخلافات.. ما زال الحب عامراً.. ومازال الاثنان قادرين على التناسل!!  

تمرّ السنون.. ويكبر قيس وليلى.. يصاب رأس قيس بالتصحر.. ويغرق خصره تحت طيّات بطنه.. وتكتنز ليلى بالدهن.. يكبر الأبناء وحدهم في غرفهم خلف سمّاعات الرأس.. وتكبر همومهم.. "يا با قسط الجامعة".. "يا با موبايل جديد"... " الله يلعن أبوكو"...

تموت والدته وتتزوج إحدى الشقيقتين.. تنتقل الأخرى لبيت قيس.. ليلى تولول.. "شو بدك يعني أخلي أختي تسكن لحالها؟".. شر مستطير.. تهاتف ليلى كل من تعرفه بحثاً عن عجوز ما.. أرمل أو راغب في التجديد.. لتتخلص من تلك العانس..

ويكبر قيس وتكبر ليلى.. يصل قيس سن التقاعد.. ويقضي صباحاته أمام دكان أبو ابرهيم.. ومساءاته في المضافة العامريّة.. البيت الذي كان عامراً بالأمس صار خاوياً.. تزوج بعض الأبناء وسافر الآخرون للعمل.. ارتقى قيس وليلى لرتبة الحج والحجة.. مع أنهما لم يزورا بيت الله أبداً.. وقرّت أعينهما برؤيا الأحفاد..  

يموت قيس في سن السبعين من مرض عضال.. وتبكيه ليلى كثيراً وتفتقده.. وتصيبها الذاكرة الانتقائية فلا تتذكر إلاّ لحظات العشق والغرام.. اذكروا محاسن موتاكم.. تنجح في الصمود بعده لثمانية عشرة عاماً أخرى نكاية في الضغط والسكري وهشاشة العظام وقصور الغدة الدرقية... وقهراً لأبنائها وبناتها و زوجاتهم وأزواجهم أجمعين... 

وتصعد روحها إلى السماء.. تبحث عن قيس لتتوحد معه من جديد..
لازمته في الأرض وستلازمه في السماء..
وتنتهي بذلك الملحمة الخالدة... 
ملحمة حب ما بعدها ملحمة..
دام عشق قيس وليلى للأبد..
في وصفه أبدع الشعراء..
وتغنّت به رمال الصحراء..

07‏/02‏/2011

هذيان...

وهكذا ما زلت أقرأ ذات الصفحة في كتاب عمري.. وأعيشها كل يوم آلاف المرات..
تعبق ثيابي بالملل والجمود.. و وجهي في المرآة قديم..
وتنتابني الهواجس..
فأعطي الإذن لقدمي بالهروب..
وأتفحص الوجوه.. فإذا بها مثلي ملئت بالهواجس!

رجل يجرّ فراخه خلفه وينظرإليهم بذهول!
من أنتم؟ ومن أين جئتم؟ هل سيجيء وقت يفيض فيه المال من جيوبي؟ ..
وآخر يرمقهم من بعيد.. هل سأملك عائلة يوما ما؟ ..
فتاة بأنف مستطيل تردّد.. هل سيلحظني أحد يوماً من الأيام؟.
 وأخرى تهذي.. هل سأحصل على ساعة واحدة فقط لنفسي؟..
آخر يبتسم.. وفي عينيه قلق كبير.. وطفل يركض لا يعبأ بأحد..
واحد يحدّق في اللامعلوم.. هل ستهبط طائرة الآن؟ وترحل بي بعيداً عن هذا المكان؟..
وهذا يغذّ المسير.. ما زال أمامي الكثير..
وذاك يستنجد.. هل سأصبح شيئاً ما يوماً؟..

... وبعد؟ هل سيكون اليوم كالغد؟

وأعود يشغلني المصير..
ولست ممن يكفرون بالمقادير..
لكن.. متى سيكون الغد مختلفاً؟
ويعييني التفكير..
وأغفو.. وتغفو هواجسي..
ونستيقظ بعد حين..
فأسألها متى ترحلين؟...