31‏/08‏/2012

قمر.. (4)

ربما كانت قمر في الثامنة لمّا ولد الصبي الجديد.. والذي قـُدّر له أن يعيش أعواماً وأعوام.. ربما سيعيش حتى يبلغ المئة عام.. ما زال حيّا حتى الآن!
زاد عدد الذكور واحداً.. أبي الشيخ وعلي وعبدالله وهذا أخي حسن..

لحظة! ففي غمرة احتفائنا بقمر سهونا عن علي وعبدالله..
كانا شابين يافعين.. يخرجان صباحاً يعملان في الحقل.. ويعودان وقت المغيب يتناولان مع العائلة العشاء.. وينامان في صحن الدّار..وكانا لي أخوين.. هكذا اعتقدت قمر..

إلّا أنّ عقيدتها هذه اهتزّت لمّا نادا الناس والدها بأبي حسن.. كانت تدرك أنّ الآباء ينادون بأسماء أولادهم.. ولكن لم لا ينادونه بأبي علي؟ أو أبي عبدالله؟
سألت أمّها: يمّه، مش علي وعبدالله إخواني؟
- لا مش إخوانك. علي وعبدالله أولاد عمتك زينب، ماتت ومات زوجها، علشان هيك عايشين معانا..
حسناً.. انكشف اللّغز..

تعافت فاطمة من آثار الولادة.. وكانت قد ربحت بعض النقود.. هدايا من أجل الصّبي الحسن.. فوضعت سلّة هائلة من القش فوق رأسها.. وجذبت قمر من يدها.. وخرجتا إلى السوق..

السوق.. ما أجمل السوق! المئات من الناس.. نعم المئات.. من هذه القرية وممّا حولها.. افترشوا الأرض مع بضائعهم.. ومن الغرباء من نصب خيمته ليقضي ليلته.. وغداً صباحاً يبارك رحلته وبيعته بزيارة المقام..
خيوط حرير.. حلوى.. قماش.. أصواف.. برتقال.. عدس.. تمر.. الكثير الكثير.. ما أجمل السوق! أبهى من العيد.. أريد من هذا ومن هذا.. قالت قمر..

هناك رجل يعرض بضاعة غريبة.. جزمة عسكرية بساق طويل.. لبسها الرجل.. وتمشى بها يستعرض ثباتها ومتانتها.. ويمتدح دفأها شتاءً ومقاومتها للأوحال.. ليست كالتي يلبسها أبي.. لم لا نشتري له واحدة؟ لا.. كان الجواب.. ولم لا؟
- هاي زي اللّي بيلبسوها النّجليز.. بيبيعونا أغراضهم.. وبعدين بيعملوا على دورنا غارة وبيقولولنا إنتو سرقتوهم..
اللّعنة! ما هؤلاء النّجليز؟ يبيعوننا شيئاً ثمّ يتهموننا بسرقته!

تذكرت قمر فجأة تلك القرود التي تحدّث عنها الخال محمد.. لم تكن قمر قد رأت إنجليزياً واحداً بعد.. لكن.. وعندما ستراهم.. ستدرك أنهم بشر مثلنا.. لكنّهم.. شئنا ذلك أم أبينا.. كانوا سلطة حاكمة!

28‏/08‏/2012

قمر.. (3)

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ عالم قمر كان راكداً أو تلقائياً.. بل على العكس.. كان حافلاً وفضولياً..

فمن أبيها الشيخ الذي شفى المصروعين.. وببخوره دفع الحسد عن المحسودين.. وبأوراده فرّج همّ المكروبين.. ومن القصص التي رواها عن الأجداد الأولياء الصالحين.. تشكل عالمها الكبير..

كانت تلازمه مع كل زائر.. وترقب عن كثب.. وترهف السمع.. وتتعلّم.. وتتطلّع للجائزة النهائية.. بيضة أو قطعة فضيّة أو دعوة هنيّة من موجوع فقير..

كانت قصص الأجداد أجمل ما يروى قبل النوم.. ذاك الجدّ الصالح الذي امتلك حقلاً للبطيخ.. وأغار عليه لص تحت جنح الظّلام.. فانقلب البطيخ إلى حجر صوان ثقيل.. كرامة لذاك الجدّ الجليل..
أو قصة جدّ آخر.. هاجم بيته قاتل شرير.. وما أن وضع يده على مقبض الباب.. التصقت يده به.. وعجز عن ولوج العتبة..
أو الجدّ الذي يعلم ما تحمل أرحام النساء من صبيان أو بنات.. بمجرّد لمس بطونهن!

وكيف لو حدّثناكم عن المقام؟ مقام "سيدي السّلام".. لن تنسى قمر أبداً زيارتها الأولى للمقام.. لمباركة الخال محمد..
ربما يجدر بنا أن نتحدّث قليلا عن الخال محمد قبل أن نستأنف حديث المقام..

محمد هو بالطبع شقيق فاطمة .. أخذه الترك جنديّاً في حربهم.. ولمّا انهزم الترك.. ألقى محمد السلاح وفرّ من الجنديّة.. هكذا.. أطلق ساقيه إلى الريح!
لم يعرف حقاً أين كان.. لكنّه مشى حتى الوطن.. تتابعت عليه الفصول.. وأمطرت عليه السماء.. وانقطعت به السبل.. أكل الصدقة وأوراق الشجر.. وصل في سيره بلاداً غريبة.. وقابل مخلوقات عجيبة.. قابل القرود! كم أسهب في وصف القرود.. بدت من وصفه بشعة جداً!
كاد أن يحيد عن الطريق عندما عمل من أجل أن يجد ركوبة.. فقد تمزّقت قدماه.. فوقع في غرام بنت ربّ العمل.. كاد أن يتزوجها لكنّه تدارك نفسه وعاد إلى رشده.. عاد للوطن..
كان يعلم أن هناك قمراً ينتظره في الوطن.. كانت قمر تضحك دوماً عندما يقول هذا الكلام.. وكان يأخذها للدّكان.. ويملأ حجرها جوزاً ولوزاً.. ألا يستحق هذا الخال كل اليُمن والبركات؟

 كان صباحاً باكراً ارتدت فيه فاطمة ثوب المناسبات.. ومشّطت جدائل قمر وزيّنت عنقها بقلادة من خرز.. وتناولت ثلاث دجاجات.. وراية خضراء.. وبرفقة بعض الجارات سرن حتى المقام منشدات... " سيدي السلام.. عليك السلام.. لبّي النِدا.. لا تخيّب رجا.. زوّار المقام ". 

ليس المقام سوى حجر كبير.. غرست في جواره الرايات.. وهناك غرست فاطمة رايتها ونحرت الدّجاجات.. وسقت جوار القبر بالدّماء.. ومن ثمّ أعطت الدّجاجات لخدم المقام.. ترى ماذا سيفعلون بالدّجاجات؟ هكذا فكّرت قمر..
قرأت فاطمة الكثير من الدعوات.. وترجّت وتضرّعت.. وتمسّحت بالقبر.. ومسحت على وجه قمر وعلى ثيابها..

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ الله لم يكن موجوداً في ذلك المكان.. كان الناس يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويدعون الله..
لكنهم  كانوا خطأ ًيظنّون.. أنّ قدرة الأجداد لا تعدلها قدرة أخرى!

25‏/08‏/2012

قمر.. (2)

لمّا ولدت قمر.. كان كلّ شيء بسيطاً.. وأبسط الأخبار قد تشغل الناس زمناً..
قمر!! اسم استثنائي في ذلك الزمان والمكان.. من سمع بهذا الاسم من قبل؟!
أثار الخبر جلبة.. وحفّز فضول نساء القرية ليتوافدن أفراداً وجماعات لرؤية هذا القمر..

لمّا ولدت قمر.. لم يكن مقدّراً أن ينجو الكثير من الأطفال.. وكانت الحمّى كالمنجل في موسم الحصاد.. متى زارت القرية.. لم تبق ولم تذر..
ورغم ذلك.. ستعيش قمر.. وككل البنات.. ستتعلم الطبخ والكنس والغسل.. وستجلب ماء البئر.. ولن تتميّز سوى بالتمائم الكثيرة التي صنعها من أجلها أبوها.. لتحملها معها لكل مكان..

لمّا ولدت قمر.. كانت عجلة الزمان تدور بسلاسة.. والكل يعيش هكذا.. لأنها الحياة..
لم ينشغل أحد بأي من تلك الأسئلة الوجودية.. من أنا؟ ولم خلقت؟ بدا وكأن كل شيء كان مفهوماً..
رغم ذلك قد خطر لقمر أن تسأل أمها سؤالاً عن وجودها..
- يمّه أنا كم عمري؟
طبعاً لم يكن للسؤال معنىً لأن قمر لا تعلم عدد السنين والحساب.. وكذا أمها لا تعرف.. لكنها أعطتها جواباً على أية حال..
- إنتي إنولدت سنة الكسرة (*).
ومع أن قمر لا تعرف ما هو عام الكسرة.. ومن كسره.. ولم كسره.. لم تتبع السؤال بسؤال.. بدا الجواب كافياً..
ألم أقل أن كل شيء كان مفهوماً في ذاك الزمان؟! 


(*)  سنة الكسرة: هي سنة انكسار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

23‏/08‏/2012

قمر.. (1)

- سيدي الشيخ فاطمة جابت بنت.. بس شكلها قوية.. مش سامع صوتها معبي الحارة!
رفع عينيه صوبها وحافظ على اتكائه ويده التي تسند خدّه وقال: وفاطمة كيف حالها؟
- بخير.. والبنت شكلها بخير..
- طيب.. هاتيها خليني أشوفها..

عادت إليه أم عادل بشيء ضئيل ملفوف بخرقة.. ومدّته إليه.. أرغمه ذلك على أن يعتدل في جلسته.. ويتناول طفلته..
نظر إليها زمناً.. بيضاء لا يضاهيها في بياضها شيء.. خدودها كالورد.. في وجهها قبس من نور..
ابتسم.. فتجرّأت أم عادل وسألت: شو بدك تسميها يا شيخ؟ 
بقي صامتاً.. وانتصب ومشى للداخل ليطمئن على فاطمة وناولها الطفلة وقال: هالبنت زي القمر.. راح أسميها قمر..
- طيب يا شيخ.. قريت عليها اشي.. علشان الله يسلّمها..
هزّ رأسه رافضاً وخرج..

شعر أن هذا الوجه ليس في حاجة للأوراد ولا للاستنجاد بالأجداد.. 
شعر أن هذا الوجه سيحيى رغم موت الخمسة الذين سبقوه..
شعر أن هذا الوجه سيبقى على الأقل ليجبره على الابتسام كل يوم..