12‏/04‏/2013

قالت

(1)
حبي الأول.. عشقتها منذ وقفت بجواري تنتظر الحافلة.. شعر خرنوبي وعيون خلّابة..
قال له صديقه.. صحيح إنّ الحبّ أعمى.. خذ عينيّ فانظر بهما.. إنها قبيحة!!
لم يأبه.. لم يكن يرى فيها إلا ملاكاً.. فالحب في أوج الصبا حقيقي جداً..
كل يوم يصل قبلها وينتظر.. نظرة إليها كفيلة بأن تشحن طاقات عالمه من جديد..
صمد الحب الصامت زمناً.. لكنه ما عاد يطيق صبراً.. فاتخذ القرار.. سيبوح بحبه..
أريد أن أسمع صوتها.. أريدها أن تقول.. وأنا كذلك أحبك..
اشترى من أجلها هديّة.. ونسخ لها قصيدة غزليّة.. قطف عن الطريق أقحوانة بريّة.. وسار نحوها بشجاعة..
اقترب منها.. أكثر فأكثر.. مشى بثبات.. أكثر فأكثر.. تباطأت خطواته.. اقترب.. وواجهها..
تسمّر مكانه.. ابتلع ريقه مع كلّ الكلمات..  فحاول أن ينقذ نفسه بابتسامة..
دام الصمت زمننا..
حتى قالت له:
هاي.. ما بالك؟ تقف هكذا وتبتسم ببلاهة.. هل أنت أحمق؟

(2)
اتكأت بيديها على حافة السور العريض.. وألقت ببصرها تنتهك حرمة الجوار..
الآن قد جاوز جسدها السور طولاً..
كم كرسياً جرّت في الماضي كي ترتفع قليلاً.. وتسرق نظرة..
كانت تحبّ النظر إليه..
كانت يافعة.. وكان هو رجلاً..
تأوّهت.. ثم قالت:
خسارة.. أنا اليوم كبيرة بما يكفي.. وهو.. قد سبقتني إليه أخرى..

(3)
أدارت رأسها بعصبية وفي كل الاتجاهات.. بحثت عنه بين المارّة وخلف زجاج السيارات..
دقّ الهاتف..
حبيبي.. أين أنت؟ أنا عند البوّابة..
أوه حبيبتي.. أنا آسف.. لن أستطيع المجيء. العمل كثير.. استقلّي سيارة أجرة..
لوحدي!! في هذا الليل..
هههه.. نعم لوحدك.. سافرت وحدك كل هذه المسافة.. لا تقولي لي بأنك خائفة!
أغلق الهاتف بسرعة ولم يدع مجالاً للردّ.. أمّا هي.. فوقفت مصدومة..
لحظات حتى أفاقت.. ثم قالت:
اللعنة! منذ متى صار يعاملني كرجل؟
(4)
لا أكاد أشعر بساقي.. منذ متى وأنا واقفة؟ ساعتان؟ كم نداءً لبّت؟ كم حقيبة جهّزت؟ وكم عراكاً فضّت؟
ألقت بنفسها على الأريكة.. فأخذ الألم يتسلل لكل مكان.. آخ يا رأسي.. آخٍ يداي وساقاي ويا عيني ويا أذني..
حاولت أن تسترخي قليلا.. شعرت ببعض الدفء يتسلل عبر النافذة.. مدّت يدها وفتحت النافذة فتدفقت الشمس بقوة أكبر.. وعبر إليها صخب المارّة ومزامير السيارات.. كان بعيداً ورقيقاً.. كترنيمة جميلة..
حسناً.. ماذا لو أغمضت عينيّ؟ قليلاً فقط.. أو كثيراً.. هل علي أن أعدّ الطعام اليوم؟
سأنام قليلاً.. نعم.. أشعر بالنعاس.. إنني أطفو وأبتعد.. إنني أهذي..
إنني أحلم..
هناك صراخ.. هناك بكاء.. هل أحلم؟ نعم.. أحلم بطفل ينادي.. هل هناك طفل ينادي؟
نعم.. هناك  طفل ينادي.. إنه طفلي أنا..
رفعت ظهرها بفزع.. وفتحت عينيها..
تذكّرت أنّ لها وليداً..
أطلقت من أعماقها زفرةً ودفنت رأسها بين كفيها.. وبكل الأسى قالت:
نعم. هذا ما كان ينقصني!

(5)
قالت لي:
ما أصعب فقد الأب.. ما أصعب فقد الأب.. كان سبباً لوجودي.. كان قوتي زمن ضعفي.. كان شمسي.. كان قمري..
كان هذا منذ عشرين عاماً.. وكانت تذوق الفقدان للمرّة الأولى.. 
بالكاد مرّت بضع سنين حتى قالت لي:
ما أصعب فقد الأخ.. ما أصعب فقد الأخ.. كان أبي وأمي.. كان عوني كان سندي.. كان عشيرتي الأقربين..
بكت وتألّمت.. صلّيت من أجلها كي لا تخسر أحداً بعد.. حتى كان الأمس.. حينها قالت لي:
ما أكبر فقد الزوج.. ما أكبر فقد الزوج.. كان أهلي بعد أهلي.. كان يومي.. كان أمسي.. كان عمري.. كان حبي..
آهٍ كم تبدو حزينة.. وكم أخشى عليها أن تحيا أكثر.. فتفقدني..
ترى..
كيف يكون فقدان الابن؟