19‏/07‏/2010

فرصة عمر...( الجزء الثاني )

في مكان آخر من هذا العالم... وبفارق توقيت زمني لا يتجاوز الساعات السبع...

ركض مسرعا نحو النافذة وحدّق في الشارع العريض، ليس مشهدا جديدا لكنه مثير ككل المرات السابقه. سائق مجنون يلوذ بالفرار بأقصى سرعة وفي المقعد الخلفي أطل آخر برأسه من النافذة وبدأ بإطلاق العيارات النارية للوراء، ورجال الشرطة تطلق العيارات النارية بكثافة بالمقابل. " جوني! ابق بعيدا عن النافذة... ستقتل نفسك! " هكذا صرخت أمه بصوت مرتجف. عاد عدة خطوات للوراء وظل نظره معلقا نحو النافذة متابعاً المشهد، وما هي ألا ثوان قليلة حتى اختفت السيارتان وخفتت الأصوات. " اللعنة على هذا المكان " أردفت أمه، ولم تكن هذه عبارة جديدة فتقريبا تقولها أمه يوميا وربما قالتها أكثر من مرة في اليوم الواحد.
لكن ما باليد حيلة! فمطاردة العصابات هي مشهد يومي في حينا، فهذه هي كوينز! عصابات وفقر وتشرد في كثير من أرجائها، حتى أن نيويورك نفسها لتخجل منها! 

عبر السلالم صعودا لغرفته واستلقى على سريره وأغمض عينيه وشرع بالحلم، رأى نفسه وقد صار غنيا واشترى منزلا كبيراً مطلا على المحيط، وقد انتشل أمه وإخوته بعيداً عن هذا المكان، وجلسوا جميعا يتناولون طعام الإفطار في الشرفة يأنسون بصوت موج المحيط الهادر، طعاماً لذيذاً وفخماً اشتروه بالنقود الكثيرة التي يملكون وقد تخلصوا للأبد من مال المعونة الشهرية التي تتقاضاها أمهم. 
قال لنفسه سأخرج أمي يوماً من هذا المكان! قالها بصوت حازم يريد من نفسه أن تصدقها مع أنه كان غير واثق تماما ممّا يقول، فكم مرة شوشت أحلامه صورة كان فيها مطارداً في زقاق معتم ودوي الرصاصات يعلو في أذنه ويفزعه وتسارعت ضربات قلبه وتعالت أنفاسه وشهق عالياً ثم فتح عينيه وصرخ " لا لن أصبح مجرماً أبداً.. أبداً.."  مدّ يده والتقط دفتر يومياته الصغير وكتب هذه العبارة مرات عديدة حتى هدأ قلبه واسترخت أنفاسه.

لم يكن جونثان يملك هدفاً محققا بعد ولم يهتدي بعد للوسيلة التي سترى بها أحلامه النور ولكنه وعلى الرغم من صغر سنه كان ذكيا بما فيه الكفاية ليدرك أن الطريق الصحيح للمضي بأحلامه هو الذهاب للمدرسة كل يوم.
وعلى الرغم من المخاطر التي قد يواجهها في الشارع وحتى داخل سور المدرسة فقد التزم بالذهاب ولم يتغيب يوماً، ولم يكن جونثان في الحقيقة عبقريا أو متميزا لكنه كان مثابرا وملتزماً وذو شخصية محببة نال بها إعجاب الجميع حوله.
قضت أيام المدرسة سريعاً وبلمح البصر وجد جونثان نفسه وقد وصل المدرسة الثانوية، وعلى الرغم من جمال هذه المرحلة وإثارتها انتابته الهواجس من وقت لآخر، فهو لم يعرف بعد كيف ستتحقق أحلامه، فلم يكن جونثان أكاديميا ولم يطق الجلوس لساعات طويلة بين الكتب مما زاد من مخاوفه. 

في الأيام الأولى في الثانوية عقدت الهيئة التدريسية للمدرسة اجتماعا مع الطلاب المستجدين شرحت من خلاله سياسة المدرسة و الخطة الدراسية والأنشطة اللامنهجية، وأوضح المرشد الطلابي أهمية الأنشطة وكيف ستبدو مهمة على طلب الانتساب للجامعة، وقد أثارالأمر اهتمام جوني حقا وعلى الرغم من كونه يشك بشدة في أنه سيصل الجامعة أصلا لكنه شعر بأنها فرصة جيدة عليه ان يستغلها على الأقل ليقتل ملل المنهاج الدراسي.
جرب جوني كل ما اتاحته المدرسة من النشاطات، شارك في العزف والمسرح والرياضة ونادي الكتاب ووو ورغم ذلك لم يعرف بعد مايريد.

وفي أحد الأيام كلف أستاذ العلوم الاجتماعية الطلاب بكتابة تقرير صحافي ينقد أحد المظاهر الاجتماعية السيئة في الشارع الأمريكي، واعتبر جوني هذا التكليف سهلا لأنه عرف عمّا سيكتب، سيكتب عن الجريمة وعصابات الشوارع ومن أفضل منه في ذلك! فهو يعيشها كل يوم مذ كان طفلاً.
وفوراً أخذته الحماسة، ولحظة وطئت قدماه باب المنزل بدأ بالعمل، أوراق وأقلام وكاميرا صغيرة حملها وانطلق للشارع. قابل أماً فقدت ابنتها بعيار ناري طائش، وقابل أباً غاضباً لإدمان ابنه المخدرات ، وقابل صديقه مايكل الذي اختار ان يترك المدرسة وأنشأ عصابته الخاصة، وشرع بتسجيل انفعالاتهم وآراءهم, آلامهم وآمالهم، وما دار بينه وبينهم من نقاشات.

بعد أسبوع عاد المعلم بالتقارير وبدأ بتوزيعها على الطلاب، وعندما جاء دور جوني اقترب منه استاذه وقال: " مستر جوناثان شكراً لك على ما كتبت. لقد كان التقرير ممتازاً وثرياً واستحققت هذه العلامة بجدارة ". ومدّ جوني يده وأخذ التقرير ونظر ليجد حرف A  كبيرا جدا جدا - أو هكذا بدا له - وخفق قلبه بسعادة فقد كانت هذه المرة الأولى التي يحصل بها على هكذا علامة. 
وتابع أستاذه " أظن أنك خلقت لهذا، أظن أنك ستصبح عظيماً يوما من الأيام ". فخفق قلبه أكثر ولم يعد قادرا على التقاط أنفاسه! فهذه المرة الأولى التي يسمع فيها مديحاً وتعظيماً، فهل من الممكن أن تكون هذه هي الطريق التي يبحث عنها؟ وهل من الممكن أن تكون هذه هي فرصة العمر؟   

لم يمض يوم أو اثنان حتى استدعي جونثان لمكتب المدير، وأوضح المدير عن رغبته في أن ينضم جونثان لفريق المناظرة في المدرسة، فقد قرأ المدير تقريره الصحفي وأبدى إعجابه بقدرته على النقاش والتحليل.
وفعلا انضم جوني وشارك مع الفريق في مناظرات عديدة مع مدارس أخرى في الولاية وأظهر تفوقا ملحوظا بجرأته وسرعة بديهته وقدرته على الاقناع، وقاد فريقه للفوز في بطولة الولاية في ذلك العام.

أيقن الآن أن هذه الفرصة ستفتح أمامه أبوابا لا نهاية لها، واتخذ القرار في الالتحاق بكلية الصحافة والاعلام، وليجعل هذا الحلم حقيقة كان بحاجة لبعثة دراسية، فدرس بجد أكثر مما فعل من قبل وتحسنت علاماته تحسنا ملحوظا، ومع ما حصده من بطولات في المناظرة ومع بعض التوصيات التي حملها معه من أساتذته ومراعاة لظروفه الاجتماعية، حصل أخيرا على البعثة وانضم لصفوف الجامعيين.

كان سعيداً بل كانت أسعد لحظات حياته! عرف ما يريد ووجد هدفه وحقق حلمه في بلوغ هذا الهدف، ومع أن طريق النجاح كان طويلا إلا أنه بدا سهلا في نظره لأنه ببساطة اختار المضي في أمر يحبه! 

بعد التخرج من الجامعة، عمل جوني صحافيا بسيطا في بعض المجلات والجرائد المحلية وشيئا فشيئا تحسن أداؤه وحصل على عمل في جريدة أكبر فأكبر، ثم حصل على عمل في محطة تلفزيونية وتدرج في تغطية الأخبار المحلية فالعالمية. وشارك في تغطية الحروب الكبرى في أفغانستان والعراق ولبنان فازدادت شهرته، حتى حصد بعض الجوائز العالمية لعمله الصحفي المبدع ولجرأته في عرض الخبر. 

لقد أصبح جوني فخرا وطنيا مما دعى سيدة البرامج الحوارية أوبرا وينفري بأن تستضيفه في حلقة خاصة لمحاورة إنجازاته وإبداعاته.
قدمته أوبرا إلى الجمهور بصفته مثالا على قصة نجاح حقيقية بعد أن سرد لها قصة حياته وما تكبده ليصل إلى ما وصل إليه، وكان قد اصطحب معه إلى اللقاء دفتر يومياته الصغير وعرض على الجمهور العبارة التي كان متمسكا بها في أنه لن يصبح مجرما فانهمرت دموع الجماهير مصحوبة بالتصفيق الحار لهذا الشاب الذي اتخذ القرار الصائب وتمكن من إنجازه.

في نهاية اللقاء سألته أوبرا " لمن يعود الفضل لما وصلت إليه اليوم؟ لمن تريد أن تتوجه بالشكر؟"
فرد جونثان: " لابد أن أتوجه بالشكر لوالدتي وإخوتي الذين دعموني في طفولتي وخلال دراستي وخلال مسيرتي المهنية، لكن أخص بالشكر معلمي الذي اكتشفني وقال لي بأنني سأصبح عظيما وجعلني أصدق ذلك! لقد آمنت بنفسي واكتسبت ثقة قادتني لأتجاوز كل الحدود والمصاعب، ولولاه لما أظنني كنت سأجلس هنا أمامكم في هذا اليوم ! " 
   

10‏/07‏/2010

فرصة عمر...( الجزء الأول )

مدّ جسده الصغير على فراشه وأغمض عينيه وشرع بالحلم، رأى نفسه برداء أبيض وشعر منكوش يقف أمام أنابيب الاختبار والأبخرة منها تتصاعد والسوائل الزهرية والزرقاء فيها تتفاعل وتطلق الإنفجارات. وناداه أحد مساعديه: " سيد أيهمـشتاين، نجحنا ". فتح عينيه وضحك ... مد يده والتقط دفتر يومياته الصغير وشرع بتسجيل حلمه، كم كان يحلم بأن يصبح عالماً!
أيهم ببساطة طفل حالم. وككل الأطفال دوما تبدو الأحلام حقيقة، أيهم كان واثقاً بأنه سيصبح عالماً، وكان جازماً بأن المشاهد التي ترتسم دوماً في مخيلته هي واقعه ومستقبله.

خرج في اليوم التالي نحو المدرسة راكضاً متفائلاً، فاليوم سيزور مختبر العلوم، وربما نجح في إعادة تمثيل أحد مشاهد أحلامه، وربما نجح في خلق تجربة ما أو تسبب في انفجار ما. ربما كان هذا اليوم مختلفاً!
دخل المختبر مع بقية زملاء صفه، أربعون طالباً أو أكثر بقليل. اكتظّ  المختبر الذي لا تتجاوز أبعادة الستة أمتار في ثمانية بهم، وعلت أصواتهم وانتشرت الفوضى، وأخرج المعلم المجهر الوحيد الذي تملكه المدرسة، وبدأ المعلم  بسرد الاختبار على عجل وتسجيل  النتائج على السبورة، ووضع الشريحة تحت المجهر، واصطف الطلاب واحدا تلو الآخر لإلقاء نظرة وحيدة عليه دون لمسه، وبهذا -وكالعادة- باءت آمال أيهم بالفشل وانتهت الحصة دون أن يجري أي تجربة أو يطلق استنتاجاً أو يسجّل اختراعاً.

كان أيهم محباً للعلوم، وكان مصراً على تحقيق أحد أحلامه، ولأنه لم يعرف بعد معنى اليأسد توجّه نحو أستاذ العلوم، وطلب منه أن يخصص يوماً للنشاط العلمي، يوماً تقوم فيه المدرسة بعمل معرض للعلوم يجري فيه الطلاب التجارب ويبنون النماذج، لكن معلمه اعتذر له، وأكّد له رفض مدير المدرسة المطلق لمثل هذه الأفكار، فميزانية المدرسة ضئيلة ولا يمكن لها أن تتحمل الإنفاق على مثل هذه المعارض.
حزن أيهم المسكين، واكتفى بإجراء التجارب مع نفسه في باحة منزله واختراع بعض الآلات البسيطة من مسمار وأخشاب وبعض الأحجار، صنع أشياء لا معنى له ولا أساس، لكنه رغب في أن يظل حلمه حيّا، فهو مازال واثقاً بأنه سيتحقق ولو بعد حين. 

حبه للعلوم جعله دوما في خانة المتفوقين وحصل على أعلى العلامات في الثانوية، وأول ما فكر فيه دراسة الفيزياء أو الكيمياء، فجنّ جنون والده، واجتمع الوالد والأعمام والأخوال لإقناعه أن لا فائدة ترجى من ذلك، " بطّل احلم. ما راح تصير عالم ولا راح تكتشف الذرّة، ما فيه هيك اشي عنّا، هالشهادة شو بدّلك تعمل فيها؟ " - " يا عم، شوفلك تخصّص بيجيب مصاري" - " مع كل هالعلامات لازم تصير دكتور أو مهندس، لا تضيع حالك هاي فرصة العمر "- " يعني شوبدك تعمل بالكيميا والفيزيا؟ نصير أستاذ علوم يعني؟ ".
وبعد سجال ونقاش استمر طويلا اقتنع أيهم، وفي النهاية اختار أن يكون مهندساً، لا حبّا بها، لكن علّه يجد في مخابرها ومشاغلها فرصة لتحقيق بعض أحلامه الدفينة.

ومرّت سنوات دراسته الأولى على خير ما يرام وكالعادة كان من المتميزين، وكان يعشق مختبرات الجامعة، حالها كان أفضل من حال مختبرات المدرسة، لكنها أيضاً كانت تعاني من نقص من الأدوات والموارد.

في أحد الأيام وهو يعبر أحد ممرات الكلية، استرعى اهتمامه أمر ما، ورقة معلقة على الحائط، عاد عدّة خطوات للوراء ونظر بإمعان، " تعلن الجامعة عن عقد دورة تدريبية في علم الاستنساخ بإشراف لجنة أجنبية ".
قرأ الاعلان عشر مرّات ولم يصدّق نفسه، هذه الفرصة التي كان يتمنها، نعم. هذه هي فرصة العمر، الآن فقط آن لأحلامه أن تتحقق!
انطلق بسرعة للاستفسار والتسجيل، وسرعان ما صدمه ما سمع، فالتكاليف باهظة جداً، ولم يكن يملك المبلغ المطلوب، فتوجّه لعميد الكلية شاكياً، وطالبه بدعم الجامعة له، فقد كان من المتفوقين، من واجب الكلية أن تدعمه، ألا تدعم الكلية العمل الطلابي والبحث العلمي؟
فردّ العميد بالنفي، فعلى الطالب أن يدعم نفسه. وضاعت فرصة أيهم وحظي بها غيره، ليس لأنهم - مثل أيهم - يرغبون بل لأنهم يملكون. 

لم تكن هذه الصفعة الأولى التي يتلقاها أيهم، لكن هذه المرة أصابه الإحباط لبعض الوقت، لكنه سرعان ما استفاق كما يفعل دائماً، وصبّ اهتمامه على دراسته وبالغ في الاهتمام وأجهد نفسه، كأنه كان يريد الانتقام من شيء ما لكنه لم يملك أن يحدّد هويته.

في عامه الأخير في الجامعة شارك أيهم أحد أساتذته في بحث علمي، صرف فيه الوقت والجهد الكثير وأبدع، وكافأ استاذه هذا الإبداع بالعلامات المتميزة، لكنه سرعان ما اكتشف أن أستاذه قدّم البحث باسمه وحده للمشاركة في مؤتمرعالمي، بل وحصل على جائزة مالية وسمعة عالميّة طيّبة.
شعر أيهم بالإهانة، شعر وكأن أحلامه وآماله قد سرقت، لقد سرقه أستاذه ونسب نتاجه وأفكاره إلى نفسه، لقد سرق منه فرصة كانت من حقّه وحده، من حقه أن يكرّم كما كرّم أستاذه.
وعندما فكر أن يطالب بحقه، أوكل إليه أستاذه الإهانات وهمّشه وحقّره، بين له بأنه لم يكن غير مساعد وضيع، لا رأي له ولا عقل. هدّده أيهم بالفضيحة، فهزأ منه أستاذه، فلن يصدقه أحد!
كيف لطالب صغير مثله أن يتجرأ ويقارن نفسه بأستاذه الذي قضى عقوداً في البحث والدراسة، كيف له أن يتطاول هكذا أستاذه؟ عليه أن يصمت ويشكر أستاذه إذ أتاح له فرصة العمل معه وكافأه بالعلامات العالية وهي أكثر مما يستحق!
اشتكى أيهم وطالب بفتح تحقيق في الأمر، وكانت النتيجة كما توقعها أستاذه، تكاتفت الجامعة لدعم أستاذها، فالأستاذ يملك الكثير من أبواب الواسطة ليطرقها ويغلق ملف القضية، أمّا الفضيحة فكانت من نصيب أيهم وحده.
كان ما حدث كاف ليزلزل ثقة أيهم ويستبدل الشك باليقين ويسمح لقطرات من اليأس أن تبلّل قلبه الحالم الطامح. وتخرّج أيهم من الجامعة غير آسف عليها، وغادرها دون رجعة، وما زال في نفسه بقية من حلم، ما زال يطمح ويقول في نفسه: لم أحظ بعد بفرصة تحقيق الحلم وربما الفرصة آتية بعد حين.

بعد أيام من حصوله على شهادته خرج للبحث عن عمل ولم يضيع وقتاً، لكن الدرب لم يكن سهلا، وكثيرا ما انتهت مقابلة العمل قبل أن تبدأ عندما همس في أذنه أحد الموظفين " يا عم هاي الوظيفة أصلاً مبيوعة، والإعلان بالجريدة بس هيك " أو عندما سأله أحدهم " مين معاك؟ مين واسطتك؟ مين بتعرف؟
احتاج أيهم للكثير من الوقت ليدرك أن فرصة العمل الجيدة  بحاجة لأكثر من التفوق أو الشغف، وبهذا قوبل بالرفض والصدّ مرات ومرات، حتى وظف بالنهاية في عمل مكتبي بائس سرعان ما ضجر منه، فلم يكن فيه من الإبداع ما يحقق طموحه وأحلامه، ومن عمل إلى عمل لم يكن يصمد في أحدها أكثر من عام وبضعة أشهر.

كان اليأس الآن قد غمر مكانا لابأس به من قلبه، وفي أحد الأيام أعطاه أحد أبناء عمومته إعلاناً في الجريدة ((وظيفة مهندس براتب مغري في بلد خليجي)). رفض أيهم فاجتمعوا فوق رأسه مرة أخرى. ما الذي يبغيه أكثر من ذلك؟ وظيفة تدر مالاً وفيراً، هذه هي فرصة العمر. 
لكنهم لم يفهموه، فليست هذه الفرصة التي يبحث عنها، فأيهم لا يريد مالاً، أيهم يريد من يعترف بموهبته، فأمثاله لو أتيح لهم الدعم المطلوب لأثاروا غيرة العالم بإبداعاتهم.

لكن سيوافق أيهم بالنهاية وسيسافر، وستأخذه الأيام، وشيئاً فشياً سيقنع بما هو فيه وسينسى أحلامه، ويوماً ما ربما بعد عدّة عقود سيجد دفتر يومياته الصغيروسيقرأه، وسيسخر من نفسه ومن وسذاجة أحلامه.
  

04‏/07‏/2010

لا للمزيد من باب الحارة ...

بدأت الاعلانات على شاشة إم.بي.سي للمسلسلات الرمضانية، وها هو يطلّ مرة أخرى، باب الحارة في جزئه الخامس، كنت أظن أن هذا المسلسل انتهى للأبد رمضان الماضي، لكن يبدو أن هناك جزءا جديدا، للأسف اكتشفت ذلك متأخرة جدا ويبدو أن الجميع كان يعلم ذلك.
في الواقع أنا أكره هذا المسلسل كراهية شديدة، فعندما عرض الجزء الأول منه لم أشاهده، لأنني وجدت أن فكرته مستهلكة وسبق وشاهدنا الكثير مثله من أيام شامية وليالي الصالحية وحمام القيشاني وغيرها.. ويبدو أن مخرج المسلسل ( بسام الملا ) لا يستطيع أن يخرج مسلسلا إلا إن كان عن حارة دمشقية قديمة. لكن لما تردد اسمه كثيرا على ألسنة الجميع أصابني الفضول وتابعت الجزء الثاني منه، وبعدها ندمت على كل لحظة أضعتها على هذا المسلسل الساذج التافه.

لا أدري حقا لم يحب المشاهد العربي مسلسل باب الحارة؟ هل هم رجال الحارة؟ أم نساء الحارة؟

 لا شيء يثير الإعجاب برجال الحارة، حقاً، لقد أصابني السأم من هذه الصورة النمطية في المسلسلات العربية، رجال الحارة الأخيار، رجال الشرف والشهامة والمروءة المثاليون - وكم أكره المثالية والمثاليين - يتصارعون مع رجال الحارة الأخرى المليئة بالأشرار والأوغاد واللصوص والهمجيين. ألم يحن الوقت لنتخلص من فكرة (صراع الخير والشر) وتلقين المبادئ للمشاهد في مسلسلاتنا العربية؟

أما نساء الحارة، وما أدراك ما نساء الحارة؟ قصص الحماية والكنة، وقصص الضراير، وبنت الحمى، والجارة التي تتعمد رمي نفاياتها أما باب الجارة ليتهمها الناس بعدم النظافة وأنها ( مش معدّلة ). وشخصية الدّاية المقززة الحشرية والتي تسعى لمعرفة خبايا الناس وتداولها في الحارة، كلها قصص موضوعة في قالب تهريجي مضحك ليضيف المرح على المسلسل، ولا هدف آخر له إلا السخرية من جنس النساء وتأكيد الصورة بأننا تافهات فارغات لا يشغلنا أي كبير أو عظيم، بل إن أعظم ما عنا هو طبخ ( الكرشات والمحاشي ) ومجالس الغيبة والنميمة. 
هي جملة واحدة أقولها لكم " تباً لكم، نحن لسنا بالمهرجات".
 
البعض يعتقد أن هذه هي صورة المرأة الحقيقية في ذلك الزمن، وأريد أن أؤكد لكم أن هذا ليس صحيحاً البتة.
أنا أعرف امرأة عاشت في زمن ماض، عاشت في زمن الجهل والتخلف، وبالرغم من ذلك لم تكن تافهة لهذا الحد.  ولدت جدتي في مطلع القرن العشرين وكانت وجدي من الفلاحين. كانت تصف لنا يومها المليء بالعمل، كيف كانت تستيقظ منذ الفجر لتعد الخبز وتطعم أولادها، وبعدها تخرج للزراعة مع جدي طيلة اليوم حتى مغيب الشمس، وكان يتخلل ذلك عودتها للبيت مرات كثيرة لتنظيف البيت وجلب الماء ورعاية الأبناء. وكيف كانت تخرج أياما قبل طلوع الشمس في موسم الحصاد سيرا على الأقدام للمشاركة في الحصاد بأجر زهيد في القرى المجاورة. وكيف كانت تترك أبناءها أحيانا في رعاية جارتها عندما تغيب لأيام، وكيف فقدت مرة ابنتها الرضيعة واللتي سلّمت الروح لبارئها من شدة التعب والحر ومشقة وطول الطريق. ولم تكن هي وحدها من عانت، بل كل نساء القرية عشن تماماً نمط الحياة الذي عاشته. 
 
لقد كانت المرأة دوماً عاملة ودوماً مسؤولة، وكان في حياتها الكثير الكثير غير المكائد والدسائس والخلافات العائلية، وكونها لم تكن متعلمة في ذاك الزمن فهذا لا يعطينا الحق بأن نسخر منها ومن عقلها ونهمشها وننتقص من حقها كما تفعل أغلب مسلسلاتنا العربية. 
 
لا خير في باب الحارة، وإن أعجب الكثير من الناس فهذا دليل -وللأسف- على الإنحدار الفكري للمشاهد العربي، وأنا لا أملك أن أوقفه أو أمنع عرضه، لكنني ببساطة سأقاطعه كما أقاطع المنتجات الدنماركية، كي أحافظ على البقية الباقية لي من عقلي .  
 
أمر آخر يقض مضجعي عندما أتذكر باب الحارة، فللعام الخامس على التوالي لن يهنأ لي عيش ولن أنام ليلا أو نهارا وستفزعني أصوات أولاد حارتنا وهم يصدحون بأوبرا (( بليلة بلبلوووووكيييي...)) وستفزعني أصوات جر صناديق الخشب والكرتون ( عرباية البليلة )، وسأخسر صيامي ذلك الشهر وأنا أسبهم وأسب أمهاتهم اللاتي أنجبنهم.
 
لكن ألا يلفت إنتباهنا حقا كيف يعجب هذا المسلسل الأطفال أكثر من غيرهم؟ أليس في ذلك مؤشر ولو بسيط على أن القصة ساذجة حقا لدرجة أنها تحاكي عقول الأطفال؟