24‏/04‏/2010

أذناب ( الجزء 2)

...
وخرجا متوجهين صوب مكتب المدير، دقّّا الباب ودخلا، وكان المدير يتحدث بالهاتف والسماعة على أذنه، " أبو سند بدنا نحي معك ".
" طيب اتفضّلوا - أبو رياض برجع بحكي معك بعدين " وأغلق سمّاعة الهاتف.
بدأ عصام وعبدالله بالترجّي وإلقاء عبارات الأسف والندم وتعهّدا أن لا يعيدا الكرّة، فسامحهما المدير وخرجا من عنده سعيدين، عند الباب: " اتفضّل علينا سيدي ... اتفضّلت ".
رفع أبو سند سمّاعة الهاتف وعاود الاتصال بصديقه أبو رياض.
-" سلام، مالك يا زلمة ليش سكّرت التلفون ؟ "
-" دخلو علي موظفين، قلت بخلّص منهم وبعدين برجع بحكي معك ".
-" شو بدهم؟ "
-" ولا شي ، اثنين مسّيحة جوخ، اجو يترجّوني ارفع عنهم العقوبات. "
-" بتعرف يا أبو رياض هذول الموظفين بيذكروني بدورة حياة الضفدع ".
-" كيف يعني؟ "
-" الموظف فيهم بيكون زي أبو ذنيبة أوّل حياته بيظل يهز بذنبه جوا المستنقع اللّي عايش فيه علشان يصل من مكان لمكان، بعد فترة بيبدا يتطوّر ويكبر، بصير جلده أخضر ومرطّب، وكل ما مر عليه وقت أكثر بيصير شكله مقزّز أكثر. لكن طِلع أو نِزل بيظل ضفدع! "
-"ههههههههه، ضحكتني يا زمة، والله عجبتني. بس يا أبو سند مش إنت كمان موظّف ؟ "
- " لا. أنا لحقتني نظريّة التطور وصرت هسّه حوت. "
-" هههههههههه، بتعجبني يا أبو سند. "
خلال عمله كمدير للدائرة عقد أبو سند الكثير من الاجتماعات الخفيّة، وجنّد العديد من الموظفين المخلصين له من الوصوليين والجبناء، و لم تكن العقوبات التي أتحف بها موظفيه إلّا وسيلة لاستقراء ردود أفعالهم ليتمكن من تحديد الحاشية المناسبة، ونجح نجاحاً باهراً في فرض سيطرته على المكان من خلال تجسيد معاني الشلليّة وضرب الموظفين ببعضهم والتفرقة بينهم.
عندما سُئِل أبو سند ما الذي يدفعه لمثل هذه التصرفات، قال معلّلا: " هذول الموظفبن مريضين نفسياً وشخصياتهم مهزوزة، ما بيشعر الواحد فيهم إنه بيسوى وعنده كيان إلّا إذا لقيله حدا كبير يستنجد فيه ويركن عليه، وبالمقابل وزي ما انت شايف أنا بعرف كل شي بينطبخ وبينقال بهالدائرة وأنا قاعد ورا مكتبي، وزي ما قال المثل: ’يا بخت من نفّع واستنفَع‘ " .
سلوكيات أبو سند السيّئة لم تصبّ في مصلحته، فقرّرت الإدارة العليا نقله من دائرته عقاباً له. وغضب أبو سند غضباً شديداً، وأراد رفض القرار لكنه لم يتجرأ أن يواجه الإدارة، فاستنجد بحاشيته لإثارة الفوضى ورفض القرار والاعتصام وتوقيع العرائض، واستجاب الأغبياء لمطالب زعيمهم وهم لا يدركون أنه قد وضعهم في الجبهة الأمامية في المواجهة واختبأ وراءهم ليحفظ لنفسه خط الرجعة. ولكن دون جدوى...
رغم أنفه أُجبر على ترك دائرته، وقبل أن يركب سيّارته ويبتعد، نظر لجموع الموظّفين المودّعة له ودموعهم تسيل على خدودهم، نظر إليهم باشمئزاز وقرف وقال في نفسه: " صحيح بتظلكو ضفادع ! "

19‏/04‏/2010

أذناب - ( الجزء 1 )

اجتمعوا في الساحة أمام المبنى وهتفوا " لا لنقل أبو حسام"، اعتصموا ذلك اليوم ورفضوا دخول مكاتبهم،" القرار تعسّفي" صرخوا... رفضوا قرار الإدارة العليا بنقل مديرهم، كتبوا العرائض، تظلّموا، طالبوا بإلغاء القرار... أعادوا الكرّة في اليوم التالي واليوم الذي يليه... ولكنّ قرار الإدارة العليا كان نافذاً.
ذرفوا الدموع يوم الوداع، " ما مر علينا أحسن منك يا أبو حسام"، " راح نستفقدلك بس شو طالع بإيدينا". ركب سيارته ورحل وفي اليوم التالي وصل المدير الجديد.
كأي مدير يريد "أبو سند" أن يفرض سيطرته وهيبته من اليوم الأول، لذلك عقد اجتماعاً منذ لحظة وصوله: " المهم عندي الالتزام، التزم بمكتبك ومهامك، لو سمحتوا ما حدا ينقل حكي عن الثاني، أنا لحالي بعرف الموظف اللي بيشتغل من اللي بايعها... ما راح أتهاون مع حد، ما فيه غياب بدون عذر، اللي بيغلط بيتحاسب، الكل تحت القانون حتى أنا..."
-" ماله هاظ عاصص على حاله هيك؟ "
-" خلّيه يا زلمة يحكي، مين اللي راح يرد عليه؟ طول عمرنا بنعمل اللي بدنا إياه وبس. "
-" هسه لو خلّولنا أبو حسام مش كان أحسن؟ "
-" اسكت واتركنا من سيرة أبو حسام من كثر ما كنّا نحبّه؟ "
-" مين حكالك إني بحبه، بس اتعوّدنا عليه وفهمنا كيف نعامله، هسه بدنا نبدا مع هاظا من جديد."
مرّت بضعة أسابيع وبدأت العقوبات تحلّق فوق رؤوس الموظفين، جلس عصام وعبدالله يتناقشان في الأوضاع الجديدة، فإذا بمحمد يدخل وعلامات الغضب واضحة على وجهه، " شفتوا هالمدير هالابن ال !!!!!!! خصم من راتبي وكلّه افترى وتبلّي".
-عصام:"حالي من حالك. "
-محمد:" طيب شو بدنا نعمل؟"
-عصام:"ولا شي بندخل عليه وبنتأسّف وما بنعيدها وسامحنا."
-محمد:"لا والله ما بعتذر، والله غير أشتكي عليه."
-عبدالله:" سيبك من هالحكي الفاضي، شو راح تعملك الشكوى؟ راح يحط حطاطك بزيادة، خلص اتأسفله وراح يلغيها."
-محمد:"يعني اتمسّح وأترجّى!"
-عصام:" يا زلمة الحياة كلها هيك بدها مداراة، ’والإيد الّي ما بتقدر تعضها بوسها‘! "
-محمد:"أصلاً مش جايب أجلنا غير أشكالك وأشكاله، أنا غلطان اللي جيت وحكيت معاكو، سلام."
نظرا لبعضهما البعض وأغرقا في الضحك على محمد المسكين الذي لا يدرك أين تكمن مصلحته، وخرجا متوجهين صوب مكتب المدير، دقّا الباب ودخلا، وكان المدير يتحدث بالهاتف والسماعة على أذنه، "أبو سند بدنا نحكي معك"
" طيب اتفضّلوا - أبو رياض برجع بحكي معك بعدين" وأغلق سماعة الهاتف.
بدأ عصام وعبدالله بالترجّي وإلقاء عبارات الأسف والندم وتعهّدا أن لا يعيدا الكرّة فسامحهما المدير وخرجا من عنده سعيدين، عند الباب: " اتفضّلت علينا سيدي... اتفضّلت."
عصام:"شفت كيف انبسط واحنا بنمجّد فيه، شفت قدّيش كبر راسه وانتفخ؟"
عبدالله:"انسى المهم التغت العقوبة، بس كل ما بدنا نشوفه بدنا نسلّم ونأهل... الله يعينّا!"
بدأ عبدالله وعصام رحلة الألف ميل في كسب ثقة المدير الجديد، لم يكتفيا بتملقّ المدير بل تحوّلا بعد فترة لساعديه الأيمن والأيسر. من مكتب لمكتب وبأسلوب استخباراتي كلاسيكي كانا يوكِلان الشتائم للمدير ويغرقانه بالانتقادات، فإذا ما بدأ الموظفون بالاستجابة حفظوا كلامهم ونقلوه في ثوان للمدير. أصبحا في غضون أشهر منافسين جادّين لمراسلي الجزيرة وال سي ان ان، لم يغفلا عن حدث مهما كان صغيراً. ولم يخل الأمر طبعاً من انتقاد المدير القديم، "والله احنا محظوظين فيك يا ابوسند، والله ابو حسام ما قدر يعمل اللّي عملته"، "ابوحسام كان متسلّط" ".. كان مدير ضعيف ما عنده قرار.." وهكذا (كُلَّمَا جَاءَت أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
وعندما سُئِل عصام وعبدالله عن السبب الذي دفعهما لمثل هذه التصرّفات علّل عصام:"كل المدرا مريضين نفسياً، الواحد منهم ما بيشعر بقيمته إلاّ إذا دخلت عليه اترجّيته أو مدحته، والمصلحة بالنسبة إلنا متبادلة، هو بتتحسّن نفسيته وبشعر بقيمته وإحنا بترتقع أسهمنا عنده وبيعمللنا اللّي بدنا إيّاه، وزي ما قال المثل يا عزيزي ’نفّع واستنفع‘".
طبعاً لم يدم الحال طويلاً، فمع كثرة الشكاوى في حقّ أبو سند قرّرت الإدارة العليا نقله من دائرته عقاباً له، وتكرّر المشهد مرة أخرى، اعتصم الموظفون واجتهدوا في توقيع العرائض وهتفوا، لكن لا فائدة، بكى الجميع بكاء تملّق ونفاق وهم يودّعونه، إلاّ اثنين منهم، كانت دموعهما حقيقية ووجعهما حقيقياً:
فقد أدرك عصام وعبدالله أنّ عليهما الآن أن يبدءا من جديد...

02‏/04‏/2010

كـــارمــا

- " ألو، كيفك أم العبد، كيف الحال، خبريني شو صار معك، شو قالولك الجماعة؟"
- " أهلين والله خيتي، والله مش عارفة شو أحكيلك، والله بنتك لميا ما بتنعاب بس الجماعة .. شو بدي أحكيلك.. يعني.. إعتذرو..."
- " طيب ليش؟ حكولك الأسباب؟ "
- " يعني زي ما شفت ابنهم أسمر شوي، وبدهم وحدة بيضة، ولميا ماشاالله عليها شوي قمحيّة ". (بيضة = لا تعني نتاج الدجاج، قمحيّة = بلون القمح وهي الكلمة الملطّفة البديلة لكلمة سمراء أو بمعنى آخر مش حلوة. المصدر: قاموس جدّتي).


- " بالله هاظا اللي هامهم، أصلاً يصحّلهم زي بنتي، جامعيّة، وموظفة، بنت عالم ومؤدبة، ومتدينة، يلاّ ما إلهم نصيب عنّا، تصبحي على خير أم العبد".

بسرعة أغلقت سمّاعة الهاتف، ونظرت لابنتها لمياء الواقفة بجانب الباب تنتظر الردّ بقلق، " ولا يهمّك يمّه، أصلاً ما بستاهلوك، أكيد بجيك أحسن من هيك عالم سُخفا ".
بصراحة لم تكترث لمياء كثيراً، ربما انزعجت في البداية، لكن سرعان ما ألقت الأمر وراء ظهرها، فقد كانت لمياء فتاة عاقلة لم تكن لتدع شيئاً كهذا ليوتّرها، وردّدت في نفسها " الزوج رزق سيأتي لا محالة بتقدير من ربّي في وقته المفروض دون استعجال " واعادت ترديد هذه العبارة حتى هدأ بالها.

مرّت بضعة شهور ولمياء ما تزال دون زواج، لكن حدث جديد الآن يشغل بال العائلة، زواج الأخ الأكبر، أخيراً تخرّج الأخ الأكبر بعد 12 سنة قضاها في دراسة الطب في إحدى دول أوروبا الشرقيّة، و عيّن في مستشفى محلّي ولا ينقصه الآن سوى "عروس". استنفرت أم لمياء وجنّدت الجارات والعمّات والخالات للبدأ في عملية البحث، وشحنت طاقاتها، ومن بيت لبيت مازال البحث جارياً...

في المساء، جلست لمياء وأمها يحتسين الشاي ويشاهدن التلفاز، قالت لمياء: " يمّه ما قلتيلي كيف العروس اللي بدّك اياها لأخوي، يعني غير التعليم وأنها بنت عيلة كويسة، كيف بدّك شكلها، يعني هيك زينا أنا وخواتي؟ "
ردّت الأم (باستهجان): " بالله شو!!! أنا ابني دكتور".
نزل كلام الأم على لمياء كالصاعقة، وقالت بصوت مخنوق: " شو قصدك يمّه يعني أنا مش خرج يخطبني واحد دكتور ولّا مش عاجبك شكلي؟ الله أكبر! بتعيريني وأنا بنتك؟ خلص ما تلومي الناس لمّا ترفضني وانتي بتعملي زيهم". دمعة صغيرة ترقرقت في عين لمياء، لكنّها تمكنت من حبسها حتى وصلت لغرفتها وأغلقت الباب، وسمحت لها بأن تنفلت، وردّدت في نفسها " الزوج رزق سيأتي لا محالة في وقته دون استعجال، وبتقدير من ربي". ردّدت في نفسها حتى هدأ بالها.

بالطبع، زارت أم لمياء الكثير الكثير من البيوت حتى وجدت ضالتها، عروس بجميع الألوان المطلوبة، الأبيض: لون البشرة، الأصفر:لون الشعر، الأزرق: لون العينين، الوردي: لون الابتسامة. لم تكن أم لمياء لترغب أكثر من ذلك لابنها، وشعرت الآن أن عالمها اكتمل.
لمياء تزوجت بعد ذلك بمدّة، لم يكن طبيباً كان موظفا حكومياً، ولم يكن مهتماً بألوان لمياء، جلّ ما همّه وظيفة لمياء وراتبها الثابت كل شهر، فراتبه البائس كان بحاجة لراتب آخر ليتوكّأ عليه. ورغم بساطة حاله كان رجلاً جيداً وأحسن معاملة لمياء.

الآن، عشرون عاماً انقضت... ومرّت الأيام بحلوها ومرّها...
واليوم الجمعة تجتمع العائلة في بيت الجدّة أم لمياء، لكنّ اجتماع اليوم ليس اجتماعاً عادياً، اليوم تظهر نتائج امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، اجتمع الجميع لمطالعة نتيجة حفيدهم الأول - ابن الدكتور- اجتمع الجميع أمام شاشة الكمبيوتر، وما أن دقّت الساعة التاسعة صباحاً حتى بدأت نتيجته بالظهور:
اللغة العربية 7/100 (مكمل)
الرياضيات 4/100 (مكمل)
... (مكمل) .... (مكمل) .......

صُدم الجميع، وغضب الأب (الدكتور)، وأراد أن يقتل ابنه، لكنّ الولد أطلق ساقيه للريح واختفى خلال ثوان. نظر الدكتور صوب أمه وصرخ : " كلّه منك يمّه، كلّه منك... لفّيت العالم ومالقيت غير هاي الغبيّة تجوزيني ايّاها.. هيها جابتلي ولاد أغبيا زيها علشان يفظحوني، شو بدهم العالم يحكو عنّا هسه، ولاد الدكتور همل وسقّط..."
نظرت لمياء صوب أمّها وقهقهت، ثم صارت القهقهة ضحكة وقويت الضحكة وعلا صوتها وجلجلت، ضحكت لمياء وضحكت وضحكت حتى كادت معدتها أن تخرج من حلقها... لم تكن لمياء تسخر من أحد ولا تريد أن تشمت بأحد، لكنها ببساطة شعرت بسعادة غامرة!!