10‏/10‏/2010

كوميديا

مساءً وفي كل يوم يمد ظهره على كرسيه ويسترخي وفي يده فنجان القهوة، يحتسي منه على مهل، وفي اليد الأخرى يمسك جهاز التحكم عن بعد ويقلّب القنوات باحثاً عن مسلسله الكوميدي اليومي.
كان المسلسل شيّقاً، وفي كل يوم كان ترتيب المشاهد مختلفاً، وعنصر المفاجأة في انتظار المشهد الأكثر إضحاكاً يزيده فرحاً وبهجة.

بدأ المسلسل اليوم بإعلان الزيت الذهبي. تبدو الأم فرحة وهي تقلي الطعام، ومن ثم تنادي الأب وأطفالهما - طفلان فقط أو ثلاثة لا أكثر- يتجالسون حول مائدة الطعام ( طاولة السفرة ) تلك المائدة الطويلة والمليئة بأطايب الطعام من الدجاج المقرمش والبطاطس الهشّة والمقبلات الشهية والتّبولة الخرافية... يرى هذا المشهد ويغرق في الضحك...ويتذكر...
يتذكرعندما كان يفترش وإخوته الأرض، وطعام الغداء ممدود على الجريدة اليومية، وكل ثلاث أو أربع يتشاطرون الصحن الواحد. تذكر عندما غمس أصابعه الخمس الملتفة حول قطعة الخبز في صحن يخنة الفاصولياء، وأخذت أصابعه تجدّف بسرعة داخل الصحن بحركات دائرية مع عقارب الساعة، وأسرعت في التجديف وأسرعت حتى خلقت تسونامي عظيماً غرقت فيه كل حبات الفاصولياء المسكينة، ولم تنجوا إلى السطح قطعة لحم واحدة! تذكّر كل ذلك وأغرق في الضحك...

المشهد الإعلاني التالي. يفاجئ الزوج السعيد زوجته بعشاء فاخر على أضواء الشموع، وهي تبدو جميلة متألقة بثوبها الأحمر المكشوف، وكل ذلك بفضل الكريم المقاوم للتجاعيد، لله درّه! يا له من كريم سحري! وضحك...
وتذكّر...
أو في الواقع لم يتذكّر شيئاً... فعقله لا يحمل أي مشهد يجمع أمه وأباه أصلاً ولا يحمل مشهداً بدا فيه أحدهما أليفاً تجاه الآخر، وأقصى ما فاجأ أبوه به أمه هو ( بكسة الكوسا ) أو عزيمة عشاء مفاجئة تعدّها أمه رغم أنفها وعيونها المجعّدة نصف مغلقة من شدّة النعاس والإرهاق والتعب. تذكر ذلك كلّه وأغرق في الضحك... 

ولا تكتمل الكوميديا بدون مشهد العصير البنفسجي الذي يجمع العائلة معاً، أعماماً وعمات، أخوالاً وخالات، الجد والجدة والصغار يتراشقون الأحاديث والضحكات... وتذكّر...
تذكر حرب (الدّالية) التي افتعلتها إحدى زوجات أعمامه عندما قطفت كل أوراق العنب قبل شروق الشمس ولم تترك للبقية ورقة ناعمة واحدة، فخرجت أمه وباقي  السّلفات ليطحن بها في حرب من السباب شديد البذاءة، وخرج أعمامه البلهاء وقد صغرت عقولهم لتناسب عقول أولئك النساء، وكلّ تحزّب إلى جنب زوجه، وأسفرت الحرب عن قطيعة شديدة لم تنجح كل الأعياد الدينية والرسمية على حلّها... وأغرق في الضحك...

ما هذه الإعلانات التجارية؟
ومن أين يأتون بهذه الأفكار الخيالية؟

فجأة! تنقطع الإعلانات التجاريّة ليعود بث المسلسل الدرامي اليومي، فيتجهّم وجهه ويغادر إلى المطبخ، ويشغل نفسه بإعداد كوب من الشاي أو فنجان آخر من القهوة، أي شيء يسلّي به نفسه حتى تنتهي تلك الدقائق المملة. لم يكن بحاجة ليجترّ دراما حياته مرّة أخرى! لكن، سرعان ما انقضت تلك الدقائق وعادت الكوميديا للشاشة مرّة أخرى.

هذا الإعلان التجاري هو الأفظع!
كان يضحك كلّما رآه حتى تنشّق شفتاه وتتقلّص معدته ويسقط عن كرسيه.
تذهب امرأة لتزور مركز الأمومة والطفولة وسرعان ما تخرج سعيدة باسمة إذ نصحتها الطبيبة بالمباعدة بين الأحمال، ووصفت لها شريط الحبوب السحري، كل ذلك لتحسن رعاية أبنائها ولا تنهك جسدها الجميل... فضحك...
وتذكّر إخوته المئة. ربما لم يكونوا مئة لكنهم دوماً بدوا وكأنهم كذلك... 
وتذكّرأمه ولم يكن يعرفها في صغره إلاّ وهي ذات أطوار ثلاث: حاملاً - للتو أنجبت - مرضعاً - حاملاً - للتو أنجبت - مرضعاً - .......
تذكّر كل ذلك وأغرق في الضحك...
ضحك وضحك وضحك حتى باغته ألم حادّ في معدته، يصبّر نفسه لكنه ما عاد قادرا،ً ويهرع إلى الحمّام ليفرغ ما في جعبته...
يضحك ويضحك ويعجب! كيف يشكو أبناء شعبه أمراض المعدة، ويجربون الوصفات العشبية والمسهّلات الدّوائية أو ذاك اللبن الخارق المعين على الهضم، والعلاج سهل!
ساعة واحدة من الكوميديا الدّعائية كافية  لتحسّن مزاجك وتخدّر آلامك وتشفي كل أمراضك.

وأغرق في الضحك....