مضى وقتٌ كنا نعيش فيه حرفياً فوق الأشجار.. وكنّا "دايرين" طول اليوم في الحارة.. كان جميع أبطال الكرتون يبحثون عن أمّهاتهم.. جعلتنا هذه المسلسلات عاطفيين.. كنت أبكي بسبب وبلا سبب "دايماً دموع".. في عيد ميلادي التاسع عشر انتحبت لأنني لم أعد طفلة.. ومع الوقت توقفت عن البكاء.. في عيد ميلادي الثلاثين لم أشعر بشيء.. وغادر جميع أبطال الكرتون إلى العوالم المتوازية.. والظاهر أنهم جميعاً "مقطوعين من شجرة"..
كان البيت ينتج كل الفواكه الشتوية والصيفية.. وحتى لو لم تزرع صنفاً ما فلن يفوتك صحن "الاستفقادة".. كان أبي يقنّب العنب.. وجدّتي ترابط ظهر كل يوم تحت شجرة الليمون "بتنطرها" خوفاً من أن يغزوها أولاد المدرسة.. اقتلعنا شجرة التين لتنمو مكانها غرفة مع منافعها.. وقطعنا شجرة التوت لأن أمي قرّرت إنها "بتوسّخ وبتجيب ذبّان".. ماتت شجرة الليمون بموت جدّتي.. واستشهدت أشجار العنب تباعاً بعد والدي.. وهذه "حقيقة علمية".. واليوم صارت كل الفواكه تـُشترى من السوق..
كان لجدّتي غطاء رأس أبيض عريض من القطن الخالص.. يغطّي وجه السماء إذا ما ثبّت على حبل الغسيل.. وشعرها ملتهب من أثر الحنّاء.. ولثيابها رائحة موغلة في القـِدم.. وفراشها من الصوف.. وكانت تقيم كل الفروض والنوافل بـ "قل هو الله أحد".. للجدّات اليوم مفهوم مختلف.. أمّي صارت جدّة.. تقرأ وتكتب.. وتصبغ شعرها بـ "غارنييه".. تلبس طقماً من ثلاث قطع.. انتقائية في كلامها وأفكارها.. وتطمس كل شيء بالعطور الفاخرة..
كانت أفواهنا تطحن أي شيء.. وكانت العائلة تأكل من الطبق الواحد.. كنّا نلتهم البطيخ من "الحزّ" مباشرة.. ونلفّ "الدّوالي" سندويشات.. واليوم صرنا "صحّيين" ومتحضّرين.. لكل منّا طبقه.. والبطيخ مكعبات مهذبة تؤكل بالشوكة.. حتى قناعاتنا بأننا لا نستطيع أن نعمل شيئاً غيّروها بكل برامج تنمية الذات والفاعلية.. وأرهقونا بالقدرة على التغيير.. والعادات السبع.. وكورسات الشخصيّة الكارزمية..
كان التلفاز ينام في منتصف الليل.. وكانت السياسة من المحرّمات.. اليوم الجميع يهذي بالسياسة.. وصار حلالاً أن تسبّ الحكومات.. حكومات تتغيّر.. ودول تـُقلب.. ودساتير تـُكتب.. إسرائيل كانت عدوّاً جبّاراً.. يحتكر النصر ويتوّجه بالمجازر.. واليوم هي تـُهزم مع احتفاظها بحقّ المجازر..
كان الهاتف ملكاً "لمن يجرؤ".. واليوم "الهاتف للجميع".. بالأمس كانت الهواتف عاديّة.. واليوم جميع الهواتف ذكيّة.. في الصباح فقط كانت الهواتف الذكيّة باهظة.. وعند الظهيرة "تنزيلات".. بالمناسبة.. "شكراً كوريا الجنوبية"..
خطر لي اليوم أن أندم على ما مضى من لحظات الفهم والذكاء والهدوء والطموح .. كان عليّ أن أكون أكثر جموحاً وجنوناً.. ولو عاد الزمن فلن أغيّر شيئاً.. لأن بعض الأمور سنن كونية وثوابت لا تتغيّر.. فـ "اللوح بيظل لوح"..
من الثوابت أيضاً ارتفاع أسعار الذهب.. وأنيميا الـ بي 12.. وأنّ الصناعة الألمانية هي الأفضل على الإطلاق.. وأنني لن أصبح أبداً أميرة..
هي مجرد هذربة.. بمناسبة نهاية العام.. أو نهاية العالم..