أذناب.. قصة من جزئين سبق لي نشرها قبل عام تقريباً، أعيد نشرها اليوم كهدية لكل "القرفانين" من عملهم اليومي شاملاً ذلك مدراءهم و زملاءهم، وهدية للخريجين الجدد، المستجدين على بيئة العمل.. رين و الرصاصة...
اجتمعوا في الساحة أمام المبنى وهتفوا " لا لنقل أبو حسام"، اعتصموا ذلك اليوم ورفضوا دخول مكاتبهم،" القرار تعسّفي" صرخوا... رفضوا قرار الإدارة العليا بنقل مديرهم، كتبوا العرائض، تظلّموا، طالبوا بإلغاء القرار... أعادوا الكرّة في اليوم التالي واليوم الذي يليه... ولكنّ قرار الإدارة العليا كان نافذاً.
ذرفوا الدموع يوم الوداع، " ما مر علينا أحسن منك يا أبو حسام"، " راح نستفقدلك بس شو طالع بإيدينا". ركب سيارته ورحل وفي اليوم التالي وصل المدير الجديد.
كأي مدير يريد "أبو سند" أن يفرض سيطرته وهيبته من اليوم الأول، لذلك عقد اجتماعاً طارئاً منذ لحظة وصوله: " المهم عندي الالتزام، التزم بمكتبك ومهامك، لو سمحتوا ما حدا ينقل حكي عن الثاني، أنا لحالي بعرف الموظف اللي بيشتغل من اللي بايعها... ما راح أتهاون مع حد، ما فيه غياب بدون عذر، اللي بيغلط بيتحاسب، الكل تحت القانون حتى أنا..."
-" ماله هاظ عاصص على حاله هيك؟ "
-" خلّيه يا زلمة يحكي، مين اللي راح يرد عليه؟ طول عمرنا بنعمل اللي بدنا إياه وبس. "
-" هسه لو خلّولنا أبو حسام مش كان أحسن؟ "
-" اسكت واتركنا من سيرة أبو حسام من كثر ما كنّا نحبّه؟ "
-" مين حكالك إني بحبه، بس اتعوّدنا عليه وفهمنا كيف نعامله، هسه بدنا نبدا مع هاظا من جديد."
مرّت بضعة أسابيع وبدأت العقوبات تحلّق فوق رؤوس الموظفين، جلس عصام وعبدالله يتناقشان في الأوضاع الجديدة، فإذا بمحمد يدخل وعلامات الغضب واضحة على وجهه، "شفتوا هالمدير هالابن ال !!!!!!! خصم من راتبي وكلّه افترى وتبلّي".
-عصام:"حالي من حالك. "
-محمد:" طيب شو بدنا نعمل؟"
-عصام:"ولا شي بندخل عليه وبنتأسّف وما بنعيدها وسامحنا."
-محمد:"لا والله ما بعتذر، والله غير أشتكي عليه."
-عبدالله:" سيبك من هالحكي الفاضي، شو راح تعملك الشكوى؟ راح يحط حطاطك بزيادة، خلص اتأسفله وراح يلغيها."
-محمد:"يعني اتمسّح وأترجّى!"
-عصام:" يا زلمة الحياة كلها هيك بدها مداراة، والإيد الّي ما بتقدر تعضها بوسها ! "
-محمد:"أصلاً مش جايب أجلنا غير أشكالك وأشكاله، أنا غلطان اللي جيت وحكيت معاكو، سلام."
نظرا لبعضهما البعض وأغرقا في الضحك على محمد المسكين الذي لا يدرك أين تكمن مصلحته، وخرجا متوجهين صوب مكتب المدير، دقّا الباب ودخلا، وكان المدير يتحدث بالهاتف والسماعة على أذنه...
"أبو سند بدنا نحكي معك"
" طيب اتفضّلوا - أبو رياض برجع بحكي معك بعدين" وأغلق سماعة الهاتف.
بدأ عصام وعبدالله بالترجّي وإلقاء عبارات الأسف والندم وتعهّدا أن لا يعيدا الكرّة فسامحهما المدير وخرجا من عنده سعيدين، عند الباب: " اتفضّلت علينا سيدي... اتفضّلت."
عصام:"شفت كيف انبسط واحنا بنمجّد فيه، شفت قدّيش كبر راسه وانتفخ؟"
عبدالله:"انسى المهم التغت العقوبة، بس كل ما بدنا نشوفه بدنا نسلّم ونأهل... الله يعينّا!"
بدأ عبدالله وعصام رحلة الألف ميل في كسب ثقة المدير الجديد، لم يكتفيا بتملقّ المدير بل تحوّلا بعد فترة لساعديه الأيمن والأيسر. من مكتب لمكتب وبأسلوب استخباراتي كلاسيكي كانا يوكِلان الشتائم للمدير ويغرقانه بالانتقادات، فإذا ما بدأ الموظفون بالاستجابة حفظوا كلامهم ونقلوه في ثوان للمدير. أصبحا في غضون أشهر منافسين جادّين لمراسلي الجزيرة وال سي ان ان، لم يغفلا عن حدث مهما كان صغيراً. ولم يخل الأمر طبعاً من انتقاد المدير القديم، "والله احنا محظوظين فيك يا ابوسند، والله ابو حسام ما قدر يعمل اللّي عملته"، "ابوحسام كان متسلّط" ".. كان مدير ضعيف ما عنده قرار.." وهكذا (كُلَّمَا جَاءَت أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
وعندما سُئِل عصام وعبدالله عن السبب الذي دفعهما لمثل هذه التصرّفات علّل عصام:" كل المدرا مريضين نفسياً، الواحد منهم ما بيشعر بقيمته إلاّ إذا دخلت عليه اترجّيته أو مدحته، والمصلحة بالنسبة إلنا متبادلة، هو بتتحسّن نفسيته وبشعر بقيمته وإحنا بترتقع أسهمنا عنده وبيعمللنا اللّي بدنا إيّاه، وزي ما قال المثل يا عزيزي ’نفّع واستنفع‘".
طبعاً لم يدم الحال طويلاً، فمع كثرة الشكاوى في حقّ أبو سند قرّرت الإدارة العليا نقله من دائرته عقاباً له، وتكرّر المشهد مرة أخرى، اعتصم الموظفون واجتهدوا في توقيع العرائض وهتفوا، لكن لا فائدة، بكى الجميع بكاء تملّق ونفاق وهم يودّعونه، إلاّ اثنين منهم، كانت دموعهما حقيقية ووجعهما حقيقياً:
فقد أدرك عصام وعبدالله أنّ عليهما الآن أن يبدءا من جديد...
...
وخرجا متوجهين صوب مكتب المدير، دقّّا الباب ودخلا، وكان المدير يتحدث بالهاتف والسماعة على أذنه...
" أبو سند بدنا نحكي معك ".
" طيب اتفضّلوا - أبو رياض برجع بحكي معك بعدين " وأغلق سمّاعة الهاتف.
بدأ عصام وعبدالله بالترجّي وإلقاء عبارات الأسف والندم وتعهّدا أن لا يعيدا الكرّة، فسامحهما المدير وخرجا من عنده سعيدين، عند الباب: " اتفضّل علينا سيدي ... اتفضّلت".
رفع أبو سند سمّاعة الهاتف وعاود الاتصال بصديقه أبو رياض.
-" سلام، مالك يا زلمة ليش سكّرت التلفون ؟ "
-" دخلو علي موظفين، قلت بخلّص منهم وبعدين برجع بحكي معك ".
-" شو بدهم؟ "
-" ولا شي ، اثنين مسّيحة جوخ، اجو يترجّوني ارفع عنهم العقوبات. "
-" بتعرف يا أبو رياض هذول الموظفين بيذكروني بدورة حياة الضفدع ".
-" كيف يعني؟ "
-" الموظف فيهم بيكون زي أبو ذنيبة أوّل حياته بيظل يهز بذنبه جوا المستنقع اللّي عايش فيه علشان يصل من مكان لمكان، بعد فترة بيبدا يتطوّر ويكبر، بصير جلده أخضر ومرطّب، وكل ما مر عليه وقت أكثر بيصير شكله مقزّز أكثر. لكن طِلع أو نِزل بيظل ضفدع! "
-"ههههههههه، ضحكتني يا زمة، والله عجبتني. بس يا أبو سند مش إنت كمان موظّف ؟"
- " لا. أنا لحقتني نظريّة التطور وصرت هسّه حوت. "
-" هههههههههه، بتعجبني يا أبو سند. "
خلال عمله كمدير للدائرة عقد أبو سند الكثير من الاجتماعات الخفيّة، وجنّد العديد من الموظفين المخلصين له من الوصوليين، و لم تكن العقوبات التي أتحف بها موظفيه إلّا وسيلة لاستقراء ردود أفعالهم ليتمكن من تحديد الحاشية المناسبة، ونجح نجاحاً باهراً في فرض سيطرته على المكان من خلال تجسيد معاني الشلليّة وضرب الموظفين ببعضهم والتفرقة بينهم.
عندما سُئِل أبو سند ما الذي يدفعه لمثل هذه التصرفات، قال معلّلا: " هذول الموظفبن مريضين نفسياً وشخصياتهم مهزوزة، ما بيشعر الواحد فيهم إنه بيسوى وعنده كيان إلّا إذا لقيله حدا كبير يستنجد فيه ويركن عليه، وبالمقابل وزي ما انت شايف أنا بعرف كل شي بينطبخ وبينقال بهالدائرة وأنا قاعد ورا مكتبي، وزي ما قال المثل: ’يا بخت من نفّع واستنفَع‘ " .
سلوكيات أبو سند السيّئة لم تصبّ في مصلحته، فقرّرت الإدارة العليا نقله من دائرته عقاباً له. وغضب أبو سند غضباً شديداً، وأراد رفض القرار لكنه لم يتجرأ أن يواجه الإدارة، فاستنجد بحاشيته لإثارة الفوضى ورفض القرار والاعتصام وتوقيع العرائض، واستجاب الأغبياء لمطالب زعيمهم وهم لا يدركون أنه قد وضعهم في الجبهة الأمامية في المواجهة واختبأ وراءهم ليحفظ لنفسه خط الرجعة. ولكن دون جدوى...
رغم أنفه أُجبر على ترك دائرته، وقبل أن يركب سيّارته ويبتعد، نظر لجموع الموظّفين المودّعة له ودموعهم تسيل على خدودهم، نظر إليهم باشمئزاز وقرف وقال في نفسه:
"صحيح بتظلكو ضفادع ! "