- أتعلم لم أنت هنا؟ قد وشى بك جيرانك والمقربون منك على استعداد للشهادة.. عندما قبض عليك رجالنا وجدوك على هيئة مريبة.. إياك أن تنكر.. لدينا ما يرغمك على الاعتراف.. لدينا ما يهشّم عظامك ويمزّق لحمك وجلدك..
- لا تقلق لن أنكر شيئاً.. ولن أمتعك بفرصة تعذيبي وتمزيقي..
- إذاً.. أتقرّ أنك كافر وتدين بغير دين الحقّ؟
- أقرّ بأنني أدين بدين آخر.. ارتضيته لنفسي.. وهو عندي حق..
- أتزعم إذاً أن ديننا هو الباطل؟ أتكذبنا وتكذ ّب إلهنا؟
- أنا لا أزعم شيئاً ولا أكذ ّب شيئاً.. أنا فقط أؤمن بغير ما تؤمنون..
- ولم فعلت هذا؟ ولم خالفتنا؟
- قد جعلت إيماني حيث اطمأن قلبي.. ديني أعطاني معناً لحياتي ومماتي.. سعادة أعيش بها.. ونهاية أصبو إليها.. أعين الغريب.. أتسامح مع المسيء.. وأعمل من أجل رضا إلهي..
- وديننا كذلك يعطيك ما تقول.. سعادة وخلوداً..
- لكنّ الطريق إليها غريب.. مخيف ومرعب.. نزعتموني من يدي والدي طفلاً وطردتموهما.. أسكنتموني بينكم.. وفرضتم علي دينكم.. هدّدتموني أن أكون مثلهما وأن أدين بدينهما.. عذّبتم خلاني وقتلتموهم.. أي دين هذا؟
- الدين الصحيح.. دين يطهر الأرض من كل الآثمين..
- لكنّ ديني لا يفعل ذلك.. ديني يترك الناس وهداهم.. كلّ يختار طريقه.. من آمن فلنفسه.. ومن كفر فلنفسه.. ثمّ يحكم بينهم ربهم فيما كانوا فيه يختلفون.. دعوا الناس وما يؤمنون.. خلّوا بينهم وبين ربهم.. فليحاكمهم هو..
- قد أعطانا الإله سلطاناً لنحاكم كلّ الكافرين ونرسلهم إلى الجحيم..
- ما أدراكم بأنا نحن الكافرون؟ لم لا تكونون أنتم الكافرون؟ ما دليلكم؟ أجيبوني..
- إلهنا قال ذلك وكفى..
- إلهكم بريء مما تدّعون..
- قد جادلتنا فأكثرت جدالنا.. هيا اصمت.. سنغيب وإنا في أمرك لناظرون..
دامت تلك الغيبة دقيقتين.. وكيف لها أن تدوم أكثر؟
قد اعترف بذنبه.. والحكم بالموت مؤكد..
أرسلوه لسرداب غائر معتم.. لغرفة رطبة منتـنة.. وكان موعده الصبح.. ليساق إلى مصيره المحقّق.. بكى وصلّى وتضرّع.. ونادى في الظلمات.. من لي من مولى غيرك.. من لي من نصير بعدك.. أغثني.. أجرني.. يا ملاذ المكروبين.. طمّنّي.. وقوّني.. وادفع عنّي.. وأصبرني على ما يحكمون..
.. قادوه بعربة الخزي والعار عبر شوارع المدينة والناس يلعنونه ويقذفونه بالشتائم والقاذورات.. وصل إلى ساحة المدينة الكبيرة حيث أعدّت محرقة هائلة من أجله.. جرّه الجلاّد من حبل طوّق خصره بعنف وضربه بقسوة ليحثه على المسير.. شدّ وثاقه بقوة فوق ألواح الخشب الكبيرة..
ونادى المنادي بالناس وتلا آخر سطور حياته..
"حكمت محاكم التفتيش في بلنسية على المدعو جيرونيمو بوينا فينتورا بالموت حرقاً بعد إدانته بجرم الكفر والارتداد عن دين المملكة إلى دين آبائه وأجداده الآثمين."
وقف جلّاده أمامه يحمل بيده شعلة ملتهبة ليغرسها في محرقته.. فنظر في عيني جلّاده وابتسم..
نظر الآخر إليه متعجباً.. أمجنون أنت؟ تبتسم؟ ستموت يا رجل..
- نعم. سأموت.. إن كان إلهي هو الإله الحق فها أنا أموت من أجله.. وقد وعدني بجنّته.. وإن كان إلهكم هو الإله الحق.. وهو الإله العادل كما تزعمون.. فلن يحرقني على الذنب مرتين.. سأخاصمه.. ألم يعطيني نفساً وعقلاً.. فكيف يجرّمني بما ارتاحت وتاقت إليه نفسي واطمأن له قلبي وعقلي..
- ألست خائفاً؟
- لم أكن مطمئناً من قبل مثلما أنا مطمئن الآن.. ها أنا ذاهب إليه.. وسأترك خلفي هذا الجنون..
بدأت الألواح تشتعل.. والناس في هرج ومرج يصرخون ويشتمون.. شعر بالحرارة تصل إلى قدميه.. والدخان القاتم يتكاثف.. استجمع شجاعته وتنفس.. أخذ يردّد.. صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.. صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.. تكاثرت سحائب الدخان من حوله.. وأخفته عن وجوه الناس.. أسرعت إليه تضمّه من كل مكان.. تنفّسها صدره.. وتنشّقها جلده.. احتلّت جوفه..أغمته وأبعدته.. بعدها وصلت ألسنة اللهب إليه.. شرعت تأكل ثيابه وجسده.. لكنه كان غائباً.. فاحترق بصمت..
صمت الناس وهم يشاهدون الجسد الملتهب.. ويشتمّون اللحم المحترق.. ولا يسمعون صراخاً أو عويلاً..
ضاق جسده بما احتشا فيه.. وما عادت روحه لتجد مكاناً في هذا العالم يسعها.. فغادرت.. وحلّقت في الأفق.. وتنفـّست.. حلّقت.. فتعهدتها رسلٌ من ربّها.. وسارت بها صوبه.. نسيت روحه كل الكفر والجور والحزن والجزع.. فالآن ستقابله.. وستطلب عنده السلام..