28‏/08‏/2012

قمر.. (3)

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ عالم قمر كان راكداً أو تلقائياً.. بل على العكس.. كان حافلاً وفضولياً..

فمن أبيها الشيخ الذي شفى المصروعين.. وببخوره دفع الحسد عن المحسودين.. وبأوراده فرّج همّ المكروبين.. ومن القصص التي رواها عن الأجداد الأولياء الصالحين.. تشكل عالمها الكبير..

كانت تلازمه مع كل زائر.. وترقب عن كثب.. وترهف السمع.. وتتعلّم.. وتتطلّع للجائزة النهائية.. بيضة أو قطعة فضيّة أو دعوة هنيّة من موجوع فقير..

كانت قصص الأجداد أجمل ما يروى قبل النوم.. ذاك الجدّ الصالح الذي امتلك حقلاً للبطيخ.. وأغار عليه لص تحت جنح الظّلام.. فانقلب البطيخ إلى حجر صوان ثقيل.. كرامة لذاك الجدّ الجليل..
أو قصة جدّ آخر.. هاجم بيته قاتل شرير.. وما أن وضع يده على مقبض الباب.. التصقت يده به.. وعجز عن ولوج العتبة..
أو الجدّ الذي يعلم ما تحمل أرحام النساء من صبيان أو بنات.. بمجرّد لمس بطونهن!

وكيف لو حدّثناكم عن المقام؟ مقام "سيدي السّلام".. لن تنسى قمر أبداً زيارتها الأولى للمقام.. لمباركة الخال محمد..
ربما يجدر بنا أن نتحدّث قليلا عن الخال محمد قبل أن نستأنف حديث المقام..

محمد هو بالطبع شقيق فاطمة .. أخذه الترك جنديّاً في حربهم.. ولمّا انهزم الترك.. ألقى محمد السلاح وفرّ من الجنديّة.. هكذا.. أطلق ساقيه إلى الريح!
لم يعرف حقاً أين كان.. لكنّه مشى حتى الوطن.. تتابعت عليه الفصول.. وأمطرت عليه السماء.. وانقطعت به السبل.. أكل الصدقة وأوراق الشجر.. وصل في سيره بلاداً غريبة.. وقابل مخلوقات عجيبة.. قابل القرود! كم أسهب في وصف القرود.. بدت من وصفه بشعة جداً!
كاد أن يحيد عن الطريق عندما عمل من أجل أن يجد ركوبة.. فقد تمزّقت قدماه.. فوقع في غرام بنت ربّ العمل.. كاد أن يتزوجها لكنّه تدارك نفسه وعاد إلى رشده.. عاد للوطن..
كان يعلم أن هناك قمراً ينتظره في الوطن.. كانت قمر تضحك دوماً عندما يقول هذا الكلام.. وكان يأخذها للدّكان.. ويملأ حجرها جوزاً ولوزاً.. ألا يستحق هذا الخال كل اليُمن والبركات؟

 كان صباحاً باكراً ارتدت فيه فاطمة ثوب المناسبات.. ومشّطت جدائل قمر وزيّنت عنقها بقلادة من خرز.. وتناولت ثلاث دجاجات.. وراية خضراء.. وبرفقة بعض الجارات سرن حتى المقام منشدات... " سيدي السلام.. عليك السلام.. لبّي النِدا.. لا تخيّب رجا.. زوّار المقام ". 

ليس المقام سوى حجر كبير.. غرست في جواره الرايات.. وهناك غرست فاطمة رايتها ونحرت الدّجاجات.. وسقت جوار القبر بالدّماء.. ومن ثمّ أعطت الدّجاجات لخدم المقام.. ترى ماذا سيفعلون بالدّجاجات؟ هكذا فكّرت قمر..
قرأت فاطمة الكثير من الدعوات.. وترجّت وتضرّعت.. وتمسّحت بالقبر.. ومسحت على وجه قمر وعلى ثيابها..

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ الله لم يكن موجوداً في ذلك المكان.. كان الناس يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويدعون الله..
لكنهم  كانوا خطأ ًيظنّون.. أنّ قدرة الأجداد لا تعدلها قدرة أخرى!

هناك 4 تعليقات:

  1. الله !
    جميل جداً هذا الجزء وغني بالتفاصيل .

    زيدينا يا شهرزاد:)

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا يا عسل :) انت الأجمل :)
      لا تخافي شكلي هالمرة راح احكي كثير بس خايف بعدين تحكولي مشان الله تسكتي!!
      تحياتي

      حذف
  2. أكل الصدقات و ورق الشجر

    :)

    مقام و لوز و قدرة أجداد

    جميل يا كيالة، جميل

    ----
    ما أظنا سنمل، زيدينا

    ردحذف
    الردود
    1. هيثم شكرا لتواجدك الدائم هنا :)
      يبهجني أن تحب ما أكتب, وسآتيك بالمزيد..

      حذف