17‏/01‏/2012

قصة أهل البصرة من المسجدِيِّين

من كتاب البخلاء للجاحظ

قال أصحابنا من المسجديين:
اجتمع ناس في المسجد، ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة، والتثمير للمال، من أصحاب الجمع والمنع. وقد كان هذا المذهب عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب، وكالحلف الذي يجمع على التناصر. وكانوا إذا التقوا في حِلَقهم تذاكروا هذا الباب، وتطارحوه وتدارسوه، التماساً للفائدة، واستمتاعاً بذكره.

فقال شيخ منهم:

ماء البئر:
ماء بئرنا - كما قد علمتم - ملح أجاج لا يقربه الحمار، ولا تسيغه الإبل، وتموت عليه النخل؛ والنهر منا بعيد، وفي تكلف العذب علينا مؤونة. فكنَّا نمزج منه للحمار، فاعتلَّ منه وانتفض علينا من أجله؛ فصرنا، بعد ذلك، نسقيه العذب صِرفاً. وكنت أنا والنعجة كثيراً ما نغتسل بالعذب مخافة أن يعتريَ جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار. فكان ذلك الماء العذب الصافي يذهب باطلاً.
ثم انفتح لي فيه باب من الإصلاح، فعمدت إلى ذلك المتوضأ، فجعلت في ناحية منه حفرة، وصهرجْتُها، وملستها، حتى صارت كأنها صخرة منقورة، وصوّبت إليها المسِيل، فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافياً، لم يخالطه شيء.
والحمار أيضاً لا تقزُّز له منه، وليس علينا حرجٌ في سقيه منه. وما علمنا أن كتاباً حرمه، ولا سنة نهت عنه، فربحنا هذه منذ أيام، وأسقطنا مؤونة عن النفس والمال.
قال القوم: هذا بتوفيق الله ومَنّه.

درهم على درهم:
ثم اندفع شيخ منهم فقال:
يا قوم لا تحقروا صغار الأمور، فإن أول كل كبير صغير، ومتى شاء الله أن يعظم صغيراً عظّمه، وأن يكثر قليلاً كثره.
وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟ وهل الدرهم إلا قيراط إلى جنب قيراط؟ أوليس كذلك رمل عالج، وماء البحر؟ وهل اجتمعت أموال بيوت إلا بدرهم من هاهنا، ودرهم من هاهنا؟

قال القوم: قد مرّت بنا اليوم فوائد كثيرة. ولهذا قال الأول: مذاكرة الرجال تلقح الألباب.

معاذة العنبرية:
ثم اندفع شيخ منهم فقال:
لم أرى في وضع الأمور مواضعها وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية. قالوا: وما شأن معاذة هذه؟
قال: أهدى إليها العام ابن عم لها أضحية. فرأيتها كئيبة حزينة مفكّرة مطرق، فقلت لها: مالك يا معاذة؟
قالت: أنا امرأة أرملة وليس لي قيّم. ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي. وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقّه. وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها، ولا في غيرها شيئاً لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة. ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر تضييع الكثير:
أما القرن فالوجه فيه معروف وهو أن يجعل كالخُطاف، ويسمر في جذع من أجذاع السقف، فيعلق به الزُّبل والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر، والنمل، والسنانير، وبنات وردان، والحيات وغير ذلك.
وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. (المِنْدفَةُ: خشبة النَّدَّاف التي يطْرُق بها الوتر ليرقِّق القَطن)
وأما قِحف الرأس، واللحيان، وسائر العظام، فسبيله أن يكسر بعد أن يُعرق، ثم يطبخ، فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة، ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم يرى الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منه، وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر، لقلة ما يخالطها من الدخان.
وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب. وللصوف وجوه لا تعد. وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب. 
ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم. وقد علمت أن الله، عز وجل، لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها، ولا يمنع منها؛ وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كيّة في قلبي وقذىً في عيني، وهمّاً لا يزال يعودني.
فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت. فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم.
قالت: أجل ذكرت أن عندي قدوراً شامية جُدُداً. وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ، ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه.
قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك الشاة؟ قالت: بأبي أنت! لم يجيء وقت القديد بعد. لنا في الشحم والألية والجُنوب والعظم المعرق وغير ذلك معاش. ولكل شيء إبَّان.

فقبض صاحب الحمار والماء العذب قبضة من حصى، ثم ضرب بها الأرض، ثم قال: لا تعلم أنك من المسرفين، حتى تسمع بأخبار الصالحين!


زبيدة بن حميد:
وأما زبيدة بن حميد الصّيرفي، فإنه استلف من بقال كان على باب داره درهمين وقيراطاً، فلما قضاه بعد ستة أشهر قضاه درهمين وثلاث حبات شعير.

فاغتاظ البقال، فقال: سبحان الله! أنت رب مائة ألف دينار، وأنا بقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي وباستفضال الحبة والحبتين، صاح على بابك حمّال والمال لم يحضرك، وغاب وكيلك، فنقدت عنك درهمين وأربع شعيرات، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات.

فقال زبيدة: يا مجنون! أسلفتني في الصيف، فقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية نديّة أرزن من أربع شعيرات يابسة صيفية، وما أشك أن معك فضلاً!



هناك 8 تعليقات:

  1. لازمن تيجي معاذة وتلقيلنا دروس بالتقشف والمحافظه على الراتب و منافع كل منافع كل شي

    يخرب بيت حريشها ,, شو قهرتني يا بنت الحلال؟؟؟


    متزكره إني بالصف الثامن حاولت أقرا هالكتاب
    بس تراجعت لمى في كلمات صعبت عليّ, بما إنه إستخدمها قليل عنا وكل شوي رح تحطي عليها إشاره إنه " شو هااااااظ"

    صباحك خير,, أيوه خليكي نشيطه هيك

    ردحذف
  2. يخرب بيتهم ما انتفهم :)
    شو هاد...ناقصنا مواجع نحنا يا كيكي؟!!!
    وبعلمي انه الجاحظ نفسه كان بخيل كمان ...مش متأكده ...بس جلطوني !

    من الصبح شفت العنوان على الريدر بس اجلّت القراءه للمسا على اساس اني بحب اكون رايقه و اتجلّى على مواضيعك ....الله يسامحك على الاستفقاده!!!

    ردحذف
  3. أم عمر:
    معاذة بتنفع لتحل الأزمة الإقتصادية لأوروبا.. أي والله لو يردوا عليها ليسددوا ديونهم بزمن قياسي :)
    الكتاب أكيد يه شوية صعوبة ولحد الآن لما أقرأه بدور على معنى بعض الكلمات.. بس ماشي الحال..
    ينور ويسعد صباحك ومساكي وشكرا إلك :)

    ردحذف
  4. نيسان:
    لسه أنا ما كتبت غير عن كمن واحد باب بخلاء البصرة طويل، فيه وحده اسمها ليلى الناطعية بيحكي عنها الجاحظ (كانت ترقع القميص.. حتى صار القميص الرقاع.. وذهب القميص الأول!)
    يلاااا اضحكي.. المفروض بالقصص تضحكك مش تنكد عليكي!

    الله يديم على أيامك الضحك والفرح يا رب :)

    ردحذف
  5. إختيار ممتع جدااااااااً : )

    قالوا ثورة الجياع والجياع في بطرة وتبذير إن قيست تصرفاتهم بمعيار معاذة و أمثالها فلو كانت في زماننا لأصيبت بسكتة قلبية من هول ما ستراه من اهدار .


    لك مني باقة عبيرها شكروتقدير

    ردحذف
  6. غريب:
    هههههههه, صحيح والله كلامك أي جياع هؤلاء؟
    دمت بود,
    وشكرا لحضورك الدائم :)

    ردحذف
  7. اه يا البي
    كانت رح تصيبني جلطة
    لا وكل وحده انئح من التانية
    يعني مش قادرة احدد بالزبط
    هدول الي سقوا الحمار مية حمامهم
    والا معاذاة ..معاذ الله منها
    والا زيبدة باشا ام الشعير
    مع اني كنت فكر زيبدة امس انثى
    على العموم
    مشكورة جهودك يا البي
    ان شاء الله هالشعب يستفيد

    لك مني خالص الود
    والا بلاش خالص هاي فيها اسراف ههههههه

    كوني بخير دوما يا رب

    ردحذف
  8. أمل:
    ههههههه. بلاش إسراف في كلمات الثناء :)
    اولا: شكرا لزيارتك ومتابعك :)
    ثانيا: كلهم كمن قصة لطاف اللي حكيتهم لسه فيه أبخل وأبخل.. بقترح لو لسه ألبك عنده احتمال اقرئي الكتاب..
    دمت بخير

    ردحذف