15‏/05‏/2010

اثنان وستون

يوم النكبة... اليوم اثنان وستون عاماً مرت على يوم النكبة...


اصدقائي... اسمحوا لي اليوم أن اتطرق لموضوع مختلف لا علاقة له بمدونتي لكنه يستحق منّا الاهتمام والتقدير.

نكبة عام 1948م وتهجير أهل فلسطين، مصيبة حلّت على رؤوس أهل هذه البلاد الطيبة وكنت أنا والكثير منكم من ضحاياها. ربما لم أكن ضحية مباشرة لأنني لم أكن قد ولدت بعد، لكن والدي كانا وأورثاني ذاك الهم وتلك الذكريات.

عندما يحلّ يوم النكبة من كل عام تتزاحم في رأسي قصص وذكريات مليئة بالسجاذة والبساطة رواها أبي وأخوالي عن أهل قريتنا، كانت قصصهم دوماً تبدأ ب "أيام البلاد ..."، اذعاناً منهم أنها أيام ولّت ولن تعود وصارت مجرد ذكرى.

أتذكر في يوم النكبة "أيام البلاد" حيث كان أهل قريتنا يبحثون في أبسط الأمور ليخلقو الفرحة والبهجة، قصة رواها أبي عن جدّي يوم نذر نذراً عظيماً، نذر أن يكافئ أول ولد " بيُطبُش " ابنه، لأن في ذلك دليل على أن والدي " كبر و صار يلعب بالحارة "، وبالفعل تحقق النذر وضُرِبَ والدي من قبل أحد أبناء عمومته، فما كان من جدي إلا أن هرع نحو ابن أخيه واحتضنه وأخذه لدكان القرية و عبأ حجره بال "اللوز والملبس".

أتذكر في يوم النكبة قصة خالي الذي كان رجلاً جريئاً بما فيه الكفاية ليخطب عروساً من قرية أخرى ويترك بنات القرية يَبكِينه لأنه كان فرصة لا تعوض - على حدّ قوله - فقد كان هو الرجل الوحيد في قريتنا الذي امتلك شاحنة، ويوم عقد قرانه حمل نساء القرية على ظهرها إلى بيت العروس، وكان ذلك بالنسبة للكثيرمنهن ذكرى لا تنتسى فالكثير منهن لم تبتعد يوماً من حياتها لأكثر من حدود القرية، وحتى اليوم مازالت عماتي وخالاتي يذكرن هذا اليوم ويردّدن الأغاني التي غنينها طول الطريق.

أتذكر في يوم النكبة قصة إنشاء أول مدرسة ابتدائية للبنات في قريتنا عام 1940م، وكان للذكور مدرسة إعدادية بنيت قبل ذلك بكثير، وكم كان جدي متحضّراً إذ أرسل عمّاتي الثلاث للدراسة فيها، في حين رفض بعض رجال قريتنا هذا الأمر وقالوا: " عيب، تروح تتعلم تقرا وتكتب عشان تكتب للشباب مكاتيب! "، لو يعلم رجال قريتنا أنّنا صرنا اليوم نمتلك المدونات! كم تضحكني هذه القصة كلّما تذكرتها...

أتذكر في يوم النكبة الكثير الكثير من القصص وأهازيج الحصاد، لأناسٍ عاشوا بسطاء أكلوا مما أطعمتهم الأرض ولم يحملوا هموماً، ناموا ملء جفونهم كنوم الطفل في مهده، حتى جاء الغول الغاصب سرق بهجتهم فضاعت إلى الأبد.
أفاق أهل قريتنا ذات صباح على دويّ الطائرات الإنجليزية المروّعة، قصفت وحطّمت وهدّمت وقتلت، تريد أن ترهبهم لتخرجهم من أرضهم وليصبح الآمنون في بيوتهم لاجئين على مفترق الطريق.

أتذكر في يوم النكبة رجالاً أشاوس أتوا من مكان غير بعيد، من أرض الكنانة مصر الطيّبة، أتوا مع الجيوش العربية لنجدة قريتنا، واستقرّت عندنا حامية من الجيش المصري شهوراً تدافع وتقاتل الصهيوني وشريكه الإنجليزي.
أتذكر رجلاً مغواراً اسمه "البيه طه"، لقّّبوه بالضبع الأسود لسمرة بشرته وجسارة قلبه، كم روى أهلنا عنه قصصاً من الخيال أذاق فيها المحتلّ صنوفاً من العذاب.
أتذكر شاباً كان برفقتهم يدعى "جمال"، شاباً همام، قاتل وكافح، وبعد بضع سنين وإذا به يلقّب ب " سيادة الرئيس"، وكم تبجّح أهل قريتنا أنهم عرفوا الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً وأكلو معه من ذات الطبق.
وحوصرت قريتنا بأهلها وضيوفها ورغم صمودهم كانت المؤامرة أكبر منهم، وأجبرت الحامية على الانسحاب وأُخرج أهلنا ودمّرت قريتنا، وباتت اليوم مهجورة تتآكلها الحشائش اليابسة وتنعق في سمائها الغربان.

أتذكّر في يوم النكبة قصص الهجرة المروّعة وكيف مشت أمي على قدميها وهي بنت ثلاث سنين بجانب البحر تضرب الأمواج قدميها وتحكُّها الرمال حتى سالت منها الدماء، وكيف عانى أبي الفقر والعَوَز وتجرّع اليتم في مخيمات اللّجوء. وتمزّق أهل قريتنا أشلاءً في كل بلاد الأرض، وتباعد الأخ والأخت والجار والعمّ، ومنهم من قضى عمره يتمنى الّلقاء و جمع الشتات، ولم يبق له من من ماضيه شيء، غير أن يقول " أياّم البلاد...".

لقد استحقّ ذاك اليوم لقب " النكبة " بكل جدارة.

اليوم في يوم النكبة أصبح أصحاب الذكرى ذكرى، وصرت أقول أبي المرحوم وخالي المرحوم، لكن قصصهم مازالت معي، أحببت بها أرضاً لم أرها وتمنيت مثلهم أن تعود.

قد أصبح أنا مثلهم ذكرى قبل أن تعود هذه الأرض، ولا أملك إلاّ حفظ هذه الذكريات، وسأحمل على عاتقي أن أمرّرها لأبنائي المستقبليين، ليحبّوا هذه الأرض كما أحببناها أنا وأجدادهم، ولعلّهم يكونون أفضل حالاً منّا ويشهدوا تحريرها، فيرووا قصصاً أخرى لأبنائهم، قصصاً تبدأ ب " لمّا رجعنا عالبلاد..."

تــصـبـحــــون علـــى وطــــــن...



هناك 5 تعليقات:

  1. يا الله شو الصور معبره..
    إن شاء الله الجيل الجديد يصحلو يحكي جمله لما رجعنا عالبلاد..

    "عندما يحلّ يوم النكبة من كل عام تتزاحم في رأسي قصص وذكريات مليئة بالسجاذة والبساطة رواها أبي وأخوالي" احنا ستي الله يرحمها كانت دايماً تحكيلنا قصص وكيف دخلو اليهود على دارهم.. وسيدي الله يرحمو طلع ستي وخالتي هربهم من اليهود.. وهوه رجع عالدار أخد كواشين البيوت والاراضي والأوراق المهمه وصورة عرسو هو وستي حطها بجيبو ولحق ستي وخالتي..
    وكيف ضلو يمشو وقديش كانوا مرعوبين ومقهورين على فراق بلدهم.. وكيف لما اجو على عمان مانفعهم غير شهاداتهم إلي من دار المعلمات إشتغلو فيها بعمان.. اشي بباقي..

    اشي محزن جداً للأسف.. أنا والدي الله يرحمو كان يقول مابرجع على نابلس غير ليطلعوا اليهود.. يا ويلي عليه.. توفى وما شاف نابلس كمان مره..

    ردحذف
  2. (أصبح أهل الذكرى ذكرى )

    معك حق فالأجيال تتعاقب واثنان وستون عاما تمضي على النكبة ومجازر الصهيونية تستمر دون توقف ولكن لا حياة لمن تنادي .

    أخاف أن يأتي يوم وتختفي كلمة أيام البلاد من قاموس التاريخ العربي ولكن سأكون أقل تشاؤما وأتمنى ذات أمنيتك في أجيال قادمة تقول ( لما رجعنا البلاد) .

    ستبقى فلسطين تسري في عروقنا وسنورث حبها لأبنائنا وسنبقى نروي قصص تشريد أهلنا حتى آخر يوم في حياتنا .

    نحبك يا فلسطين

    ردحذف
  3. لن أزيد على ما قالته رلى + ما قاله أشرف.
    أخشى أن يأتي عام ال 63 و نكون بحال ٍ أسوأ :(

    ردحذف
  4. سلمت يمناك
    الصور كما قالت رولا معبرة ومؤلمة
    وكلامك مس جدران القلب اللاجيء النازح
    وأرجوا أن لايكون لهذا القلب اسما ثالثا
    المشكلة أن الجيل الذي ظل يراهن على الرجوع مات جله، لكن البركة فيكم ان شاء الله

    ردحذف
  5. to rula:
    يا رب يارولا نكون انا وانت من الجيل اللي راح يرجع ويشوفها محررة والله يرحم امواتنا اجمعين.

    to ashraf:
    لا يسعني الا ان اشكرك على زيارتك للمدونة واشكرك على التعليق الجميل. ونعم نحبك يا فلسطين وسنظل نحبك.

    to haitham:
    شكرا لزيارتك وخليك متفائل الأيام الجاية أحسن.

    to nader:
    نعم الصور معبرة، وعلى فكرة الصورة الثانية والتي يظهر فيها اللاجؤون يحملون متاعهم ويركبون ظهر السيارة أخذت في قريتي بعد انسحاب الحامية المصرية واجبار الأهالي على الرحيل.
    يا رب ما تزيد مآسينا اكثر، وبتكفبنا احداث غزة الأخيرة هي اكبر دليل على عمق المأساة، والله يرزق فلسطين واهلها الافضل في الايام اللي جاية...

    ردحذف