17 كانون
الثاني - عام 1991م:
يبدأ
الهجوم والقصف لتحرير الكويت من الغزو العراقي.
بإمكاني
أن أسمع دوي الرصاص وهدير الطائرات- نحن نسكن منطقة حدودية- هي الأقرب للعراق.
بث
التلفاز مقطوع.
لا
اتصال هاتفي.
صلة
الاتصال الوحيدة مع العالم عبر المذياع: مونت كارلوأوالـ بي بي سي.
الليلة
تركنا شقتنا في الطابق الثاني وسنبيت في غرفة في طابق (التسوية).
... :
الأيام
متشابهة.
نستيقظ
على صوت الإذاعة.. ونأكل يرافقنا صوت الإذاعة.. نبيت على صوت الإذاعة..
الليل
مخيف.. يؤذن قدومه ببدأ القصف.. وكل يوم تزداد حدّته.
تتلون
السماء وتضيء ..الصوت مرعب وعميق ومخيف.
3 شباط - 1991م:
يتخذ
والدي القرار بالرحيل..
يحجز
المقاعد ويدفع أجرة الحافلة.. الرحيل بعد 4 أيام.
تبدأ
أمي وشقيقاتي بحزم الأمتعة وحمل ما يمكن حمله.
6 شباط - 1991م:
نودع
بيتنا للأبد..
يرفع
أبي المتاع على سقف السيارة وننطلق.. نبيت الليلة في مدينة أخرى عند أحد الأقارب
من حيث ستنطلق الحافلة.
الوضع
أكثر هدوءاً في هذه المدينة.. والأطفال يلعبون في الشارع.
7 شباط - 1991م:
منذ
الفجر نصل لمكان انطلاق الحافلة.
يبدأ
الجميع بتحميل أمتعته وتأمين مقعده.
نحن
العائلة الأكبر عددا.. يوجد شاب وشقيقته.. أم وابنتاها..
رجل
في الأربعين لوحده ليس له مقعد ولا أدري لماذا، يضع حقيبته البنية على الأرض وسط
الحافلة ويجلس عليها طول الرحلة.
تنطلق
ثلاث حافلات والوقت بعد مبكر جداً..
الوضع
هادئ..
نتوقف
مرات ومرات للتفتيش.. الجنود يملؤون الطريق قبل وبعد الحدود.
نعبر
الحدود.
قبل
الظهيرة:
نصل
(البصرة).
لم
يخبرني أحد.. لكنني أعرفها جيداً، فقد زرتها من قبل..
أعرفها
من نخيلها المحترق ومن التماثيل المتراصة على طول شط العرب تخلّد ذكرى من قضوا في الحرب
الإيرانية ..
ونستمر
بالمسير.
الحياة
تبدو عادية.. المتاجر مفتوحة.. الناس في الأسواق..
فتاة
صغير في آخر الحافلة تبدأ بتسميع درس اللغة العربية: هذا دكّان.. هذا فلاّح!
ونستمر
بالمسير.
في
المساء:
نصل
(بغداد).
لا
أعرف كم الساعة بالضبط.. لكن العتمة قد أرخت سدولها بقوة.
رجل
على قارعة الطريق يشوي اللحم.. والرائحة قوية.. جداً..
هل
في هذا المكان أي حرب؟ أم أن الحرب صارت لهذه الدرجة عاديّة!
السائق
يريد أن يستريح.. فينشب الخلاف..
الركاب
يرفضون المبيت في بغداد.. بالتأكيد ستتعرض للقصف..
يشتد
الخلاف بين مؤيد ومعارض..
ينتصر
المعارضون..
ونستمر
في المسير.
بعد
ساعات نمرّ عن جسر متهدّم يحترق ( جسر الفلّوجة ).
الظلام
حالك.. لا أنوار في الشوارع والحافلة تسير بدون هدىً.. الضوء يضعك في دائرة
الاستهداف.
يشغّل
السائق الأنوار الأمامية لحظة.. تنطلق صفارة أحد الجنود المنتشرين على الطريق
بالتحذير.. يطفئ السائق الأنوار بسرعة.
ربما
بعد منتصف الليل بقليل:
نصل
(الرّمادي).
تصطف
الحافلة على جانب الطريق في منطقة خالية.. تبدو كالمزرعة لا أذكر بالضبط..
وتبدأ
الإحتفالية!
بغداد
تتعرض للقصف.. وكذا الرمادي.. وكل مكان..
السماء
تنير بلون أخضر فسفوري كئيب جداً.. والصوت مرعب وشديد..
تنطلق
القذائف المضادة للطائرات.. ويبدوا أنها قريبة.. فالصوت عالٍ جداً جداً يصمّ
الآذان..
يشرع
الأطفال في الحافلة بالبكاء.. وطبعاً.. أنا أوّلهم..
ويستمر
القصف.. ساعة.. ساعتين..
لم
يرتح أحد.. ولم ينم أحد..
لعن
الله الحروب وصانعيها.
8 شباط - 1991م:
من
أول خيط نور يتدفق يبدأ المسير..
الكل
مستيقظ.. والكل عيونه متعلقة بالنوافذ.. شعور غريب.. وكأننا لم نكن مستيقظين هكذا من قبل..
ونستمر
بالمسير.. دون توقف..
الوضع
هادئ.. من وقت لآخر تسمع صوت بعض الطلقات.. وكلما اتجهنا غرباً أكثر فأكثر خفتت الأصوات..
مزارع
وقطعان من الماشية.. ثم تتبدل الصورة لما يشبه الصحراء..
الكل
متشنج في كرسيه.. بتنا أقرب وأقرب من حدود الأردن..
وأخيراً..
قبل
المغيب:
ندخل
حدود الأردن (رويشد).. وتتبدل الوجوه سعادة وترتسم عليها الإبتسامات..
نتوقف
عند موظف الجوازات.. موظف الجمرك يطالب الركاب بتنزيل كل الأمتعة.. كل شيء.. ويبدأ
بالتفتيش.. ثم يبدأ بفرض الرسوم الجمركية!
شكراً..
هذا ما كان ينقصنا..
يتحول
الأمر لصراخ وعراك.. بعض الركاب لا يملكون مالاً فائضاً أصلاً.. ويُستدعى مدير
الجوازات..
ساعة
حتى انتهى الخلاف..
زادت
ظلمة الليل.. والجو بارد بارد جداً..
نعود
لتحميل الأمتعة.. ونستمر بالمسير..
بعد
قليل..
تتعطّل
الحافلة!
يحاول
السائق إيصالنا بشق الأنفس لأقرب مدينة.. وتنجح المحاولة.. نتوقف في (الأزرق).
يتصل
السائق بسائق آخر ليتمّم الرحلة.. وفعلاً يصل بعد وقت قليل.. ننزل الأمتعة ونعيد
تحميلها في الحافلة الجديدة.
الحافلة
مهترئة وتصدر أزيزاً مزعجاً.. والنوافذ تسرّب الهواء البارد القارص..
ونستمر
بالمسير باتجاه العاصمة عمّان..
تبدو
المسافة طويلة وكأنها مئة عام..
نصل
(مجمّع رغدان) الواحدة ليلاً..
يهنئ
الجميع بعضهم بالسلامة ويتبادلون الهواتف ويتفرقون.. كانت آخر مرة نرى بعضنا
للأسف!
نستقل
سيارة الأجرة ونتجه لبيت أحد الأعمام من قاطني العاصمة..
ونبيت
الليلة..
9 شباط - 1991م:
نتصل
لحظة استيقاظنا بمنزلنا في (إربد) لنعلم جدّتي بوصولنا..
يصل
بعض الأقارب لتحيتنا.. ويقلوننا بسيّاراتهم للمنزل..
تتلبّد
السماء بالغيوم وينهمر المطر..
بعد
الظهر:
نصل
المنزل.. وتستقبنا جدّتي.. بفرح ممزوج بحزن وتعب.. لم أرها منذ عام ونصف.. لكنها
بدت وكأنها قد كبرت مئة عام..
البيت..
أخيراً.. لا أصدق!
لا
أدري كيف أكلت ذاك اليوم وكيف نمت تلك الليلة..
10 شباط - 1991م:
أستيقظ
في الصباح وكل شيء يبدو غريباً.. السقف.. الفراش.. أنظر ليميني فاجد جدّتي جالسة
على فراشها الصوفيّ تنظر إلينا بإمعان.. هي الأخرى لا تصدّق!
أخرج
لحديقة المنزل.. الطقس بارد والأرض مبلولة وشعاع شمس طفيف ينير الأجواء..
العشب
الأخضر يملأ المكان.. والنرجس قد أزهر.. و رائحته جميلة جداً جداً..
بعد يومين:
تذهب
أمي لتسجيلنا في المدرسة.
كنت
أتمنى لو لم يقبلونا.. لكنهم فعلوا!
لو
قالوا: لا يجوز الالتحاق بالمدرسة من منتصف العام، عودوا العام القادم.. حلم
جميل.. لكنه لم يتحقّق!
بعد أسبوع:
يشتدّ
المرض على جدّتي.. يبدو أن جدّتي تحتضر..
بعد ثلاثة أسابيع:
تنتقل
روح جدّتي لبارئها.. لكنها بالتأكيد روح سعيدة.. قد سنحت لها الفرصة لترانا
وتودعنا ونكون بجوارها حتى آخر لحظة.. رحمها الله..
وأمّا
نحن..
فتستمر الحياة.. ولا ندري إلى أين تأخذنا غداً..