قصة الكيل بمكيالين...
ولدت الآنسة كيّالة في يوم ما من شهر نيسان، ويقال أن مواليد الربيع منفتحون ذهنياً ويتمتعون بذاكرة قوية لنقاء هواء الربيع وصفائه.
لكن الآنسة كيّالة وبعد ولادتها بحين، شُخّصت إصابتها بمرضٍ عضال، مرض يدعى ب " سبيل العارفين ".
لا تعرف حقيقة كيف أصيبت بهذا المرض، ربما هي عدوى انتقلت إليها من هواء غرفة الضيوف الملوّث بنسيم الكتب الكثيرة، والتي كانت تختبئ خلفها عند لعب "الاستغماية"، أو ربما هو مرض وراثي، ورثته عن والدها صاحب تلك الكتب الكثيرة.
لكن ما تعلمه وتجزم به أن لا علاقة لهذا المرض بحيّها الذي تسكن فيه، فقد كانت ومازالت تسكن أحد الأحياء العاديّة والتي كان كل أبنائها موفوري الصحة ولم يظهر أي منهم أعراضاً لذلك المرض، وحتّى مدرستها لم يكن لها دور في إصابتها، فهي لم ترتد إحدى المدارس الخاصّة التي تبالغ بالاهتمام بطلابها، بل على العكس ارتادت أسوأ المدارس وأقبحها، والتي بالرغم من سوئها لم تنجح في تخليصها من ذاك المرض العضال.
في الطفولة اقتصر ذاك المرض على الإنصات الجيّد والملاحظة الدقيقة للأشياء والفضول وكثرة السؤال والكلام، وبعد تعلّم القراءة والكتابة تعدّاه إلى قراءة الكتب بشتى الأنواع والمواضيع، وكان لقصص التاريخ حظوة لم يحظ بها غيرها من القصص.
كبرت الآنسة كيّالة وازداد المرض تفاقماً، تعدّى قراءة الكتب لقراءة كل لائحة عل جانب الطريق ومتابعة الوثائقيات التلفزيونية والأخبار التي لا يشاهدها إلاّ العجائز، واستفحل المرض أكثر وأكثر بمجيء شبكة الإنترنت.
في أحد الأيام وعندما كانت كيّالة ما تزال في المدرسة الإعدادية، ذكرت المعلمة شيئاً عن مسابقات القراءة والمطالعة، وبالطبع كانت كيّالة أول المتطوعين، وقرأت في ستة أشهر ما يزيد عن 120 كتاباً وقصة لتشارك في المسابقة، وبالطبع لم تكن من الفائزين، لكن ذاك الفعل زادها إدماناً وتعلّقاً بمرضها الذي بات لا يرجى الشفاء منه.
لم تتصور كيّالة يوماً أن يقال أمامها شيء ولا تعرف عنه، وإن حدث اجتهدت بالسؤال والبحث لتعرف وتعرف. وكم كانت تتبجّح بما تعرف، أحياناً كانت تلقى تشجيعاً من معلمتها ومديحاً من صديقتها فظنت ولو لحين أن ما أصابها قد لا يكون سوءاً، لكن الأيام كانت كفيلة بمحو كل الظنون.
مرّت الأيام.. وكبرت كيّالة وكبرت وتخرجت من مدرستها وجامعتها، ومازال المرض يرافقها، تغيب أعراضه أحياناً وتعود بشراسة أحياناً أخرى.
مرحلة جديدة في حياتها بدأت، إنها الوظيفة الحكومية.
في الوظيفة بحثت كيّالة عمن يشاركها مرضها ويؤنس وحدتها لكن لم تجد، كانوا كلهم أصحّاء، يطلع عليهم الصبح وتغيب عليهم الشمس وهم في "صحوة الجاهلين". حدّثتهم مرات ومرات عما تعرف، لكن أحدا منهم لم يعرف ما تعرف. منهم من لم يسمع بجيفارا ولا حنظلة، منهم من لم يعرف خرتشوف أو الملك هنري، جلجامش أو موبي ديك أو حتى بيل غيتس، فأنّا لهم أن يعرفوا " رسل كرو" !!
لم تستطع أن تبدأ معهم موضوعاً مهما في الحياة أو المجتمع أو التاريخ أو السياسة أو الاقتصاد.. لا شيء.. وأسفوا لحالها ورشقوها بالعبارات الجارحة، " أوف كل شي بتعرف فيه"، " حاملة ع ظهرها وزارة ثقافة"، بل وصل الأمر لاتهامها بالكفر والزندقة، فلا يجوز لأمثالها ممن يرتدون " الحجاب والجلباب " أن يقرأ شيئاً عن ماركس أو يشاهد برنامجاً عن "كيف مات مايكل جاكسون"، فأمثالها يجب أن تبدأمعرفتهم دوماَ ب قال الله وقال رسوله!
حاولوا شفاءها ومحو معرفتها بقصص تبدأ ب" شو طبخة اليوم"، لكن عبثاً حاولوا، وازداد شعورها بالغربة والمرض.
كانت تظن أن صحوة الجاهلين كانت تصيب موظفي الدوائر الحكومية بالذات لقلّة مدخولهم وكثرة أولادهم وأعبائهم ورداءة لباسهم، فالتمست لهم عذراً، وقرّرت أن تبحث عن عمل آخر إضافي في إحدى الدوائر الخاصة، تلك الدوائر التي يطلّ موظفوها بالملابس العصرية والسيارات الجميلة.
وعملت معهم لعامين، ولله الحمد! فإن أظهر بعض موظفي الدوائر الحكومية أعراضاً طفيفة لذلك المرض ، كان موظفوا الدوائر الخاصة أصحاء جداً جداً. إذاً لا علاقة للأمر بالمظهر!!
آثرت الآنسة كيّالة السكوت بعد حين، وبدأت تنصت لهم وحاولت أن تشاركهم في مؤامرة " كيف تكيدي حماتك؟"، " كيف تنتفي زوجك؟"، "كيف توقعي صاحبتك؟"، " كيف بينطبخ المسخّن؟".... لكنها لم تستطع، ووصلت حدّ الانفجار والانتحار.
وفي غمرة البؤس خطر لها خاطر، تذكّرت عالماً أغرمت به منذ عامين أو يزيد، عالماً يدع ب " المدونات"، كانت تقرأ فيه وتستمتع، وفكرت لم لا أكون جزءاً منه؟ وقد أجد غيري من العارفين السّقماء يؤنس وحدتي. ولله الحمد فقد وجدت!
بدأت مدونة بموضوع كان يشغلها ويقلق تفكيرها، " الكيل بمكيالين "، ولن تنسى فضل موظفي الحكومة ممن ألهموها بمواضيع شتى، بمؤامراتهم ونفاقهم وشخصياتهم المهزوزة والمريضة ووجوههم المتعدّدة.
بدأت بالكتابة، ووجدت الكثير من العارفين السّقماء ممن شاركها قصصها قراءةً وتعليقاً، بل كان بعضهم أشدّ سقماً ومرضاً منها، فلم تعد غريبة ولم تعد وحيدة، وارتاح بالها الآن.
لكن كيّالة وبعد شهور من بدأ المدونة، أدركت أمراً عظيماً، أدركت أنها تعيش رسميّاً بشخصيتين وهويتين، شخصية مقبولة اجتماعياً في مكان العمل، وشخصية مقبولة نفسياً خلف ستار المدونات. لقد أدركت كيّالة أنها ليست بأفضل حالاً ممن تكتب عنهم، فها هي (ذات وجهين)، وها هي ذا (تكيل بالمكيالين)، ولو اضطرت أحياناً فستكيل بالمكيالين والثلاث والأربع.
لكنّها ترجو منكم أن تلتمسوا لها عذراً، بالله عليكم ما كان عليها أن تفعل ؟؟
قد كانت وصلت مرحلة الجنون، وهي تعلم أن كلّ ما يميزها هو عقلها ومعرفتها، وإن ضاعت منها ضاعت هي للأبد...
في أحد الأيام وعندما كانت كيّالة ما تزال في المدرسة الإعدادية، ذكرت المعلمة شيئاً عن مسابقات القراءة والمطالعة، وبالطبع كانت كيّالة أول المتطوعين، وقرأت في ستة أشهر ما يزيد عن 120 كتاباً وقصة لتشارك في المسابقة، وبالطبع لم تكن من الفائزين، لكن ذاك الفعل زادها إدماناً وتعلّقاً بمرضها الذي بات لا يرجى الشفاء منه.
لم تتصور كيّالة يوماً أن يقال أمامها شيء ولا تعرف عنه، وإن حدث اجتهدت بالسؤال والبحث لتعرف وتعرف. وكم كانت تتبجّح بما تعرف، أحياناً كانت تلقى تشجيعاً من معلمتها ومديحاً من صديقتها فظنت ولو لحين أن ما أصابها قد لا يكون سوءاً، لكن الأيام كانت كفيلة بمحو كل الظنون.
مرّت الأيام.. وكبرت كيّالة وكبرت وتخرجت من مدرستها وجامعتها، ومازال المرض يرافقها، تغيب أعراضه أحياناً وتعود بشراسة أحياناً أخرى.
مرحلة جديدة في حياتها بدأت، إنها الوظيفة الحكومية.
في الوظيفة بحثت كيّالة عمن يشاركها مرضها ويؤنس وحدتها لكن لم تجد، كانوا كلهم أصحّاء، يطلع عليهم الصبح وتغيب عليهم الشمس وهم في "صحوة الجاهلين". حدّثتهم مرات ومرات عما تعرف، لكن أحدا منهم لم يعرف ما تعرف. منهم من لم يسمع بجيفارا ولا حنظلة، منهم من لم يعرف خرتشوف أو الملك هنري، جلجامش أو موبي ديك أو حتى بيل غيتس، فأنّا لهم أن يعرفوا " رسل كرو" !!
لم تستطع أن تبدأ معهم موضوعاً مهما في الحياة أو المجتمع أو التاريخ أو السياسة أو الاقتصاد.. لا شيء.. وأسفوا لحالها ورشقوها بالعبارات الجارحة، " أوف كل شي بتعرف فيه"، " حاملة ع ظهرها وزارة ثقافة"، بل وصل الأمر لاتهامها بالكفر والزندقة، فلا يجوز لأمثالها ممن يرتدون " الحجاب والجلباب " أن يقرأ شيئاً عن ماركس أو يشاهد برنامجاً عن "كيف مات مايكل جاكسون"، فأمثالها يجب أن تبدأمعرفتهم دوماَ ب قال الله وقال رسوله!
حاولوا شفاءها ومحو معرفتها بقصص تبدأ ب" شو طبخة اليوم"، لكن عبثاً حاولوا، وازداد شعورها بالغربة والمرض.
كانت تظن أن صحوة الجاهلين كانت تصيب موظفي الدوائر الحكومية بالذات لقلّة مدخولهم وكثرة أولادهم وأعبائهم ورداءة لباسهم، فالتمست لهم عذراً، وقرّرت أن تبحث عن عمل آخر إضافي في إحدى الدوائر الخاصة، تلك الدوائر التي يطلّ موظفوها بالملابس العصرية والسيارات الجميلة.
وعملت معهم لعامين، ولله الحمد! فإن أظهر بعض موظفي الدوائر الحكومية أعراضاً طفيفة لذلك المرض ، كان موظفوا الدوائر الخاصة أصحاء جداً جداً. إذاً لا علاقة للأمر بالمظهر!!
آثرت الآنسة كيّالة السكوت بعد حين، وبدأت تنصت لهم وحاولت أن تشاركهم في مؤامرة " كيف تكيدي حماتك؟"، " كيف تنتفي زوجك؟"، "كيف توقعي صاحبتك؟"، " كيف بينطبخ المسخّن؟".... لكنها لم تستطع، ووصلت حدّ الانفجار والانتحار.
وفي غمرة البؤس خطر لها خاطر، تذكّرت عالماً أغرمت به منذ عامين أو يزيد، عالماً يدع ب " المدونات"، كانت تقرأ فيه وتستمتع، وفكرت لم لا أكون جزءاً منه؟ وقد أجد غيري من العارفين السّقماء يؤنس وحدتي. ولله الحمد فقد وجدت!
بدأت مدونة بموضوع كان يشغلها ويقلق تفكيرها، " الكيل بمكيالين "، ولن تنسى فضل موظفي الحكومة ممن ألهموها بمواضيع شتى، بمؤامراتهم ونفاقهم وشخصياتهم المهزوزة والمريضة ووجوههم المتعدّدة.
بدأت بالكتابة، ووجدت الكثير من العارفين السّقماء ممن شاركها قصصها قراءةً وتعليقاً، بل كان بعضهم أشدّ سقماً ومرضاً منها، فلم تعد غريبة ولم تعد وحيدة، وارتاح بالها الآن.
لكن كيّالة وبعد شهور من بدأ المدونة، أدركت أمراً عظيماً، أدركت أنها تعيش رسميّاً بشخصيتين وهويتين، شخصية مقبولة اجتماعياً في مكان العمل، وشخصية مقبولة نفسياً خلف ستار المدونات. لقد أدركت كيّالة أنها ليست بأفضل حالاً ممن تكتب عنهم، فها هي (ذات وجهين)، وها هي ذا (تكيل بالمكيالين)، ولو اضطرت أحياناً فستكيل بالمكيالين والثلاث والأربع.
لكنّها ترجو منكم أن تلتمسوا لها عذراً، بالله عليكم ما كان عليها أن تفعل ؟؟
قد كانت وصلت مرحلة الجنون، وهي تعلم أن كلّ ما يميزها هو عقلها ومعرفتها، وإن ضاعت منها ضاعت هي للأبد...