في مكان آخر من هذا العالم... وبفارق توقيت زمني لا يتجاوز الساعات السبع...
ركض مسرعا نحو النافذة وحدّق في الشارع العريض، ليس مشهدا جديدا لكنه مثير ككل المرات السابقه. سائق مجنون يلوذ بالفرار بأقصى سرعة وفي المقعد الخلفي أطل آخر برأسه من النافذة وبدأ بإطلاق العيارات النارية للوراء، ورجال الشرطة تطلق العيارات النارية بكثافة بالمقابل. " جوني! ابق بعيدا عن النافذة... ستقتل نفسك! " هكذا صرخت أمه بصوت مرتجف. عاد عدة خطوات للوراء وظل نظره معلقا نحو النافذة متابعاً المشهد، وما هي ألا ثوان قليلة حتى اختفت السيارتان وخفتت الأصوات. " اللعنة على هذا المكان " أردفت أمه، ولم تكن هذه عبارة جديدة فتقريبا تقولها أمه يوميا وربما قالتها أكثر من مرة في اليوم الواحد.
لكن ما باليد حيلة! فمطاردة العصابات هي مشهد يومي في حينا، فهذه هي كوينز! عصابات وفقر وتشرد في كثير من أرجائها، حتى أن نيويورك نفسها لتخجل منها!
عبر السلالم صعودا لغرفته واستلقى على سريره وأغمض عينيه وشرع بالحلم، رأى نفسه وقد صار غنيا واشترى منزلا كبيراً مطلا على المحيط، وقد انتشل أمه وإخوته بعيداً عن هذا المكان، وجلسوا جميعا يتناولون طعام الإفطار في الشرفة يأنسون بصوت موج المحيط الهادر، طعاماً لذيذاً وفخماً اشتروه بالنقود الكثيرة التي يملكون وقد تخلصوا للأبد من مال المعونة الشهرية التي تتقاضاها أمهم.
قال لنفسه سأخرج أمي يوماً من هذا المكان! قالها بصوت حازم يريد من نفسه أن تصدقها مع أنه كان غير واثق تماما ممّا يقول، فكم مرة شوشت أحلامه صورة كان فيها مطارداً في زقاق معتم ودوي الرصاصات يعلو في أذنه ويفزعه وتسارعت ضربات قلبه وتعالت أنفاسه وشهق عالياً ثم فتح عينيه وصرخ " لا لن أصبح مجرماً أبداً.. أبداً.." مدّ يده والتقط دفتر يومياته الصغير وكتب هذه العبارة مرات عديدة حتى هدأ قلبه واسترخت أنفاسه.
لم يكن جونثان يملك هدفاً محققا بعد ولم يهتدي بعد للوسيلة التي سترى بها أحلامه النور ولكنه وعلى الرغم من صغر سنه كان ذكيا بما فيه الكفاية ليدرك أن الطريق الصحيح للمضي بأحلامه هو الذهاب للمدرسة كل يوم.
وعلى الرغم من المخاطر التي قد يواجهها في الشارع وحتى داخل سور المدرسة فقد التزم بالذهاب ولم يتغيب يوماً، ولم يكن جونثان في الحقيقة عبقريا أو متميزا لكنه كان مثابرا وملتزماً وذو شخصية محببة نال بها إعجاب الجميع حوله.
قضت أيام المدرسة سريعاً وبلمح البصر وجد جونثان نفسه وقد وصل المدرسة الثانوية، وعلى الرغم من جمال هذه المرحلة وإثارتها انتابته الهواجس من وقت لآخر، فهو لم يعرف بعد كيف ستتحقق أحلامه، فلم يكن جونثان أكاديميا ولم يطق الجلوس لساعات طويلة بين الكتب مما زاد من مخاوفه.
في الأيام الأولى في الثانوية عقدت الهيئة التدريسية للمدرسة اجتماعا مع الطلاب المستجدين شرحت من خلاله سياسة المدرسة و الخطة الدراسية والأنشطة اللامنهجية، وأوضح المرشد الطلابي أهمية الأنشطة وكيف ستبدو مهمة على طلب الانتساب للجامعة، وقد أثارالأمر اهتمام جوني حقا وعلى الرغم من كونه يشك بشدة في أنه سيصل الجامعة أصلا لكنه شعر بأنها فرصة جيدة عليه ان يستغلها على الأقل ليقتل ملل المنهاج الدراسي.
جرب جوني كل ما اتاحته المدرسة من النشاطات، شارك في العزف والمسرح والرياضة ونادي الكتاب ووو ورغم ذلك لم يعرف بعد مايريد.
وفي أحد الأيام كلف أستاذ العلوم الاجتماعية الطلاب بكتابة تقرير صحافي ينقد أحد المظاهر الاجتماعية السيئة في الشارع الأمريكي، واعتبر جوني هذا التكليف سهلا لأنه عرف عمّا سيكتب، سيكتب عن الجريمة وعصابات الشوارع ومن أفضل منه في ذلك! فهو يعيشها كل يوم مذ كان طفلاً.
وفوراً أخذته الحماسة، ولحظة وطئت قدماه باب المنزل بدأ بالعمل، أوراق وأقلام وكاميرا صغيرة حملها وانطلق للشارع. قابل أماً فقدت ابنتها بعيار ناري طائش، وقابل أباً غاضباً لإدمان ابنه المخدرات ، وقابل صديقه مايكل الذي اختار ان يترك المدرسة وأنشأ عصابته الخاصة، وشرع بتسجيل انفعالاتهم وآراءهم, آلامهم وآمالهم، وما دار بينه وبينهم من نقاشات.
بعد أسبوع عاد المعلم بالتقارير وبدأ بتوزيعها على الطلاب، وعندما جاء دور جوني اقترب منه استاذه وقال: " مستر جوناثان شكراً لك على ما كتبت. لقد كان التقرير ممتازاً وثرياً واستحققت هذه العلامة بجدارة ". ومدّ جوني يده وأخذ التقرير ونظر ليجد حرف A كبيرا جدا جدا - أو هكذا بدا له - وخفق قلبه بسعادة فقد كانت هذه المرة الأولى التي يحصل بها على هكذا علامة.
وتابع أستاذه " أظن أنك خلقت لهذا، أظن أنك ستصبح عظيماً يوما من الأيام ". فخفق قلبه أكثر ولم يعد قادرا على التقاط أنفاسه! فهذه المرة الأولى التي يسمع فيها مديحاً وتعظيماً، فهل من الممكن أن تكون هذه هي الطريق التي يبحث عنها؟ وهل من الممكن أن تكون هذه هي فرصة العمر؟
لم يمض يوم أو اثنان حتى استدعي جونثان لمكتب المدير، وأوضح المدير عن رغبته في أن ينضم جونثان لفريق المناظرة في المدرسة، فقد قرأ المدير تقريره الصحفي وأبدى إعجابه بقدرته على النقاش والتحليل.
وفعلا انضم جوني وشارك مع الفريق في مناظرات عديدة مع مدارس أخرى في الولاية وأظهر تفوقا ملحوظا بجرأته وسرعة بديهته وقدرته على الاقناع، وقاد فريقه للفوز في بطولة الولاية في ذلك العام.
أيقن الآن أن هذه الفرصة ستفتح أمامه أبوابا لا نهاية لها، واتخذ القرار في الالتحاق بكلية الصحافة والاعلام، وليجعل هذا الحلم حقيقة كان بحاجة لبعثة دراسية، فدرس بجد أكثر مما فعل من قبل وتحسنت علاماته تحسنا ملحوظا، ومع ما حصده من بطولات في المناظرة ومع بعض التوصيات التي حملها معه من أساتذته ومراعاة لظروفه الاجتماعية، حصل أخيرا على البعثة وانضم لصفوف الجامعيين.
كان سعيداً بل كانت أسعد لحظات حياته! عرف ما يريد ووجد هدفه وحقق حلمه في بلوغ هذا الهدف، ومع أن طريق النجاح كان طويلا إلا أنه بدا سهلا في نظره لأنه ببساطة اختار المضي في أمر يحبه!
بعد التخرج من الجامعة، عمل جوني صحافيا بسيطا في بعض المجلات والجرائد المحلية وشيئا فشيئا تحسن أداؤه وحصل على عمل في جريدة أكبر فأكبر، ثم حصل على عمل في محطة تلفزيونية وتدرج في تغطية الأخبار المحلية فالعالمية. وشارك في تغطية الحروب الكبرى في أفغانستان والعراق ولبنان فازدادت شهرته، حتى حصد بعض الجوائز العالمية لعمله الصحفي المبدع ولجرأته في عرض الخبر.
لقد أصبح جوني فخرا وطنيا مما دعى سيدة البرامج الحوارية أوبرا وينفري بأن تستضيفه في حلقة خاصة لمحاورة إنجازاته وإبداعاته.
قدمته أوبرا إلى الجمهور بصفته مثالا على قصة نجاح حقيقية بعد أن سرد لها قصة حياته وما تكبده ليصل إلى ما وصل إليه، وكان قد اصطحب معه إلى اللقاء دفتر يومياته الصغير وعرض على الجمهور العبارة التي كان متمسكا بها في أنه لن يصبح مجرما فانهمرت دموع الجماهير مصحوبة بالتصفيق الحار لهذا الشاب الذي اتخذ القرار الصائب وتمكن من إنجازه.
في نهاية اللقاء سألته أوبرا " لمن يعود الفضل لما وصلت إليه اليوم؟ لمن تريد أن تتوجه بالشكر؟"
فرد جونثان: " لابد أن أتوجه بالشكر لوالدتي وإخوتي الذين دعموني في طفولتي وخلال دراستي وخلال مسيرتي المهنية، لكن أخص بالشكر معلمي الذي اكتشفني وقال لي بأنني سأصبح عظيما وجعلني أصدق ذلك! لقد آمنت بنفسي واكتسبت ثقة قادتني لأتجاوز كل الحدود والمصاعب، ولولاه لما أظنني كنت سأجلس هنا أمامكم في هذا اليوم ! "
لم يكن جونثان يملك هدفاً محققا بعد ولم يهتدي بعد للوسيلة التي سترى بها أحلامه النور ولكنه وعلى الرغم من صغر سنه كان ذكيا بما فيه الكفاية ليدرك أن الطريق الصحيح للمضي بأحلامه هو الذهاب للمدرسة كل يوم.
وعلى الرغم من المخاطر التي قد يواجهها في الشارع وحتى داخل سور المدرسة فقد التزم بالذهاب ولم يتغيب يوماً، ولم يكن جونثان في الحقيقة عبقريا أو متميزا لكنه كان مثابرا وملتزماً وذو شخصية محببة نال بها إعجاب الجميع حوله.
قضت أيام المدرسة سريعاً وبلمح البصر وجد جونثان نفسه وقد وصل المدرسة الثانوية، وعلى الرغم من جمال هذه المرحلة وإثارتها انتابته الهواجس من وقت لآخر، فهو لم يعرف بعد كيف ستتحقق أحلامه، فلم يكن جونثان أكاديميا ولم يطق الجلوس لساعات طويلة بين الكتب مما زاد من مخاوفه.
في الأيام الأولى في الثانوية عقدت الهيئة التدريسية للمدرسة اجتماعا مع الطلاب المستجدين شرحت من خلاله سياسة المدرسة و الخطة الدراسية والأنشطة اللامنهجية، وأوضح المرشد الطلابي أهمية الأنشطة وكيف ستبدو مهمة على طلب الانتساب للجامعة، وقد أثارالأمر اهتمام جوني حقا وعلى الرغم من كونه يشك بشدة في أنه سيصل الجامعة أصلا لكنه شعر بأنها فرصة جيدة عليه ان يستغلها على الأقل ليقتل ملل المنهاج الدراسي.
جرب جوني كل ما اتاحته المدرسة من النشاطات، شارك في العزف والمسرح والرياضة ونادي الكتاب ووو ورغم ذلك لم يعرف بعد مايريد.
وفي أحد الأيام كلف أستاذ العلوم الاجتماعية الطلاب بكتابة تقرير صحافي ينقد أحد المظاهر الاجتماعية السيئة في الشارع الأمريكي، واعتبر جوني هذا التكليف سهلا لأنه عرف عمّا سيكتب، سيكتب عن الجريمة وعصابات الشوارع ومن أفضل منه في ذلك! فهو يعيشها كل يوم مذ كان طفلاً.
وفوراً أخذته الحماسة، ولحظة وطئت قدماه باب المنزل بدأ بالعمل، أوراق وأقلام وكاميرا صغيرة حملها وانطلق للشارع. قابل أماً فقدت ابنتها بعيار ناري طائش، وقابل أباً غاضباً لإدمان ابنه المخدرات ، وقابل صديقه مايكل الذي اختار ان يترك المدرسة وأنشأ عصابته الخاصة، وشرع بتسجيل انفعالاتهم وآراءهم, آلامهم وآمالهم، وما دار بينه وبينهم من نقاشات.
بعد أسبوع عاد المعلم بالتقارير وبدأ بتوزيعها على الطلاب، وعندما جاء دور جوني اقترب منه استاذه وقال: " مستر جوناثان شكراً لك على ما كتبت. لقد كان التقرير ممتازاً وثرياً واستحققت هذه العلامة بجدارة ". ومدّ جوني يده وأخذ التقرير ونظر ليجد حرف A كبيرا جدا جدا - أو هكذا بدا له - وخفق قلبه بسعادة فقد كانت هذه المرة الأولى التي يحصل بها على هكذا علامة.
وتابع أستاذه " أظن أنك خلقت لهذا، أظن أنك ستصبح عظيماً يوما من الأيام ". فخفق قلبه أكثر ولم يعد قادرا على التقاط أنفاسه! فهذه المرة الأولى التي يسمع فيها مديحاً وتعظيماً، فهل من الممكن أن تكون هذه هي الطريق التي يبحث عنها؟ وهل من الممكن أن تكون هذه هي فرصة العمر؟
لم يمض يوم أو اثنان حتى استدعي جونثان لمكتب المدير، وأوضح المدير عن رغبته في أن ينضم جونثان لفريق المناظرة في المدرسة، فقد قرأ المدير تقريره الصحفي وأبدى إعجابه بقدرته على النقاش والتحليل.
وفعلا انضم جوني وشارك مع الفريق في مناظرات عديدة مع مدارس أخرى في الولاية وأظهر تفوقا ملحوظا بجرأته وسرعة بديهته وقدرته على الاقناع، وقاد فريقه للفوز في بطولة الولاية في ذلك العام.
أيقن الآن أن هذه الفرصة ستفتح أمامه أبوابا لا نهاية لها، واتخذ القرار في الالتحاق بكلية الصحافة والاعلام، وليجعل هذا الحلم حقيقة كان بحاجة لبعثة دراسية، فدرس بجد أكثر مما فعل من قبل وتحسنت علاماته تحسنا ملحوظا، ومع ما حصده من بطولات في المناظرة ومع بعض التوصيات التي حملها معه من أساتذته ومراعاة لظروفه الاجتماعية، حصل أخيرا على البعثة وانضم لصفوف الجامعيين.
كان سعيداً بل كانت أسعد لحظات حياته! عرف ما يريد ووجد هدفه وحقق حلمه في بلوغ هذا الهدف، ومع أن طريق النجاح كان طويلا إلا أنه بدا سهلا في نظره لأنه ببساطة اختار المضي في أمر يحبه!
بعد التخرج من الجامعة، عمل جوني صحافيا بسيطا في بعض المجلات والجرائد المحلية وشيئا فشيئا تحسن أداؤه وحصل على عمل في جريدة أكبر فأكبر، ثم حصل على عمل في محطة تلفزيونية وتدرج في تغطية الأخبار المحلية فالعالمية. وشارك في تغطية الحروب الكبرى في أفغانستان والعراق ولبنان فازدادت شهرته، حتى حصد بعض الجوائز العالمية لعمله الصحفي المبدع ولجرأته في عرض الخبر.
لقد أصبح جوني فخرا وطنيا مما دعى سيدة البرامج الحوارية أوبرا وينفري بأن تستضيفه في حلقة خاصة لمحاورة إنجازاته وإبداعاته.
قدمته أوبرا إلى الجمهور بصفته مثالا على قصة نجاح حقيقية بعد أن سرد لها قصة حياته وما تكبده ليصل إلى ما وصل إليه، وكان قد اصطحب معه إلى اللقاء دفتر يومياته الصغير وعرض على الجمهور العبارة التي كان متمسكا بها في أنه لن يصبح مجرما فانهمرت دموع الجماهير مصحوبة بالتصفيق الحار لهذا الشاب الذي اتخذ القرار الصائب وتمكن من إنجازه.
في نهاية اللقاء سألته أوبرا " لمن يعود الفضل لما وصلت إليه اليوم؟ لمن تريد أن تتوجه بالشكر؟"
فرد جونثان: " لابد أن أتوجه بالشكر لوالدتي وإخوتي الذين دعموني في طفولتي وخلال دراستي وخلال مسيرتي المهنية، لكن أخص بالشكر معلمي الذي اكتشفني وقال لي بأنني سأصبح عظيما وجعلني أصدق ذلك! لقد آمنت بنفسي واكتسبت ثقة قادتني لأتجاوز كل الحدود والمصاعب، ولولاه لما أظنني كنت سأجلس هنا أمامكم في هذا اليوم ! "