31‏/12‏/2012

النهاية دائماً جميلة..

- هذه النهاية مربكة!
- هذا ما اقتضاه سياق الأحداث..
- عليك أن تحسّنها بأحداث أخرى.
- النهاية تعني الاكتفاء. لا توجد أحداث أخرى..
- بإمكانك أن تكتب جزءاً آخر.. أو أجزاءاً أخرى..
- يستحيل علي ذلك.
- لم؟
- أنت تعرف أنها لن تكون بجودة القصة الأولى.. فكلّما ازدادت الأجزاء ازدادت الحكاية سخافة.
- افرض. لكنك على الأقل ستنال رضا القرّاء.
- هكذا إذاً.. علي أن أحقق أحلام القرّاء!
- نعم. ولا تتباطأ.. غداً تبدأ السنة الجديدة.. اشحذ أقلامك من الآن..

22‏/12‏/2012

خراريف

أول خرّافيّة: بياض الثلج

كان يا مكان فيه بنت بيضا كثير اسمها بياض الثلج عاشت مع مرت أبوها الشريرة اللي كانت تكرهها لانها حلوة وبيضا كثير، ولإنه مصدر الشر في العالم هو بنتين غيرانات من بعض كانت العيشة بالقصر مستحيلة، صحيح بياض الثلج بيضا كثير وكمان أميرة، فهربت بياض الثلج من جور مرت أبوها وراحت عالغابة.
في الغابة لقت بيت فيه سبع أقزام، حكتلهم حكايتها، فالشباب الطيبة أخذتهم الحميّة وحلفوا عليها يمين لتقعد معاهم بالدّار، وخدموها بإخلاص وتفاني زي ما أي شب مقدام لازم يعمل لمّا يصادف بنت حلوة بدها مساعدة.
مرت أبوها ما تركتها بحالها وصارت تدوّر عليها بدها تموّتها علشان تورث القصر لحالها، سألت هون وهون لحد ما اندلّت عليها، أخذتلها معاها تفاحة مسمومة واتنكرت بزي عجوز مسكينة، دقّت الباب وطلبت من بياض الثلج مساعدة، فساعدتها بياض الثلج لإنه طبيعي أي بنت حلوة لازم تكون كمان طيبة وبتحب الغير، راحت العجوزأعطتها التفاحة شكر إلها للمساعدة، فأكلتها بياض الثلج وغصّت فيها ووقعت وأغمى عليها.
هون تركتها مرت أبوها تموت على مهلها، وبجيّة الأقزام اللي لقيوها وحاولوا يصحّوها بس ما صحيت، فقعدوا يبكوا عليها لإنهم فكروها ماتت، وكان فيه أمير من بلد ثانية طالع يعمل جولة بين البلدان يدوّر على عروس وكان مارر بالصدفة من الغابة فسمع صوت البكا، وقّف وسأل عن القصة، هون الأمير طلع متعلّم إسعافات أولية، وقال لحاله هالبنت حلوة وبيضا كثير وبتستاهل أنقذها، ولو كانت بياض الثلج أغمق شوي كان تركها تغصّ وتموت، نزل عن حصانه ومسك بياض الثلج وعمللها انعاش وتنفس اصطنعاعي، فصحيت، وحكتلهم شو صار معها، فقال الأمير: هاي أكيد مرت أبوكي مش تاركيتك بحالك، سيبك منها واتجوزيني، أنا قصري أكبر وأحلى، هون بياض الثلج وافقت على طلب الأمير، لإنه أمير من مستواها وكمان أنقذ حياتها زي القصص الخرافية، وركبت على حصانه وسافرت معه، وراحت عالشباب الطيبة.

ثاني خرّافيّة: السندريلا

يحكى أنه كان فيه بنت اسمها سندريلا عايشة مع مرت أبوها الشريرة وبنات مرت أبوها البشعات، وطبيعي عالأكيد إنه مرت الأب شريرة دايماً، وطبيعي جداً إنه السندريلا هي الوحيدة الحلوة في القصة، وهي الوحيدة الطيبة لإنها حلوة.
كانت السندريلا تشتغل كل شغل البيت لحالها، وخواتها اللي من مرت أبوها ما بيساعدوها، وطبيعي إنه يكون في البيت أخت بطلع كل الشغل من قبّتها وفيه خوات ثانيات ولا عند بالهن.
أعلن أمير البلاد عن إقامة حفلة بده يلم فيها كل بنات البلد لتنقي أمه منهن وحدة تجوزو إياها، وطبيعي وجود مثل هيك مناسبات للمعاينه والاختيار، وقرّرت سندريلا تحضر الحفلة بلكي يختارها الأمير وتخلص من شغل الدّار، بس هي كانت فقيرة وما عندها فستان حفلة، فا طبيعي راحت لفّت على كل صاحباتها وجاراتها وقراباتها تا تستعير فستان خرج الحفلة، ولقيت واحد عجبها لبسته وعملت شعرها وحطّت مكياج، وراحت عالحفلة.
هون الأمير أعجب فيها من أول ما شافها، ورقص هو وياها ساعات وساعات، لحد ما دقّت الساعة 12 بالليل، زاحت السندريلا الأمير وراحت تركض لإنها اتأخرّت عن الدّار وبلاش تصير جريمة شرف، ولإنها ركضت بسرعة فا طبيعي إنها تتفركش إجرها وتوقع وتسحل كندرتها وتكمّل عالدار حافية من اللّخمة، ووصلت الدّار بستر وستيرة وما شافها حد.
هسا طبيعي إنه الأمير ياخذ كندرتها ويلفّ بين البيوت يدوّر عليها لإنه معجب فيها، بس مش طبيعي أبدًا إنه السندريلا هي الوحيدة في البلد اللي نمرة كندرتها 38، وباقي بنات البلد نمر كنادرهم 39 و 40 و 41 تا ما وحدة فيهن دخلت رجلها بالكندرة، ومش طبيعي أبدًا إنّه الأمير ما لقي وسيلة يميّز فيها السندريلا غير (الحذاء)، ومش قادر يتذكّر ملامحها وهو اللي رقص معاها ساعات وساعات، إلا إذا كان أصلاً مش مركّز فيها، برقص مع وحدة وبيتطلّع بوحدة وبغمز بوحدة، وهيك..
لمّا الأمير لقي السندريلا واكتشف إنها فقيرة بطّل يتزوّجها، وهيك اتعلّمت السندريلا بالطريقة الصعبة إنه ما حدا بينقذ حدا، وإنها لازم تنقذ حالها بحالها وتلاقيلها طريقة أذكى من هيك المرّة الجايّة.

ثالث خرّافيّة: ذات الرّداء الأحمر

كان فيه بنت صغيرة إسمها ليلى اشترتلها أمها جاكيت أحمر حلو كثير، كانت تحبّه وتلبسه دايما جوّا الدار ولمّا تروح عالمدرسة وحتى لما تنزل تلعب بالحارة.
في يوم من الأيام خبزت أمها كعك وحطّت منهم شوي بالسلّة ونادت على ليلى وحكتلها وصيلهم لجدّتك. هون ليلى على طول لبست الجاكيت الأحمر ونزلت ركض على بيت الجدّة.
لمّا وصلت البيت لقت الباب مفتوح، ونادت على جدّتها، بس جدّتها ما ردّت، سمعت ليلى صوت مخيف طالع من غرفة جدّتها، فدخلت الغرفة ولقت الذيب، هون ليلى ارتعبت و رجعت عالبيت ركض وحكت شو شافت لأمها وأبوها.
أبوها لمّ كل رجال العيلة  ونزلوا على دار الجدّة بالمسدّسات والسيوف والكريكات، ولمّا وصلوا ما لقيوا الذيب لإنه مش معقول لحد هسه بستناهم، والجدّة ماتت وشبعت موت، لإنه أي حدا بياكله الذيب عالأكيد بيموت. 
الكل زعل عالجدّة، وليلى بكيت كثير، ودفنوا اللي ظلّ منها، والكعكات اللي كانن في السلّة وزّعوهن عن روح الجدّة.

رابع خرّافيّة: بوكاهانتس

المفروض في هاي الخرّافية إنه جون سميث وبوكاهانتس بيحبوا بعض، لإنه الحب ما بيميز بين عرق ولون ومستوى أو قبيلة، بس اللي صار فعلياً إنه بوكاهانتس كانت مجرّد علاقة عابرة، لإنه جون سميث بعد فترة سافر بناءً على طلب الملكة لمستعمرة ثانية وما رجع أبداً. 
بوكاهانتس تعبت وهي بتستنا جون سنة وسنتين وثلاث، فكرته مات فاتزوّجت ببساطة انجليزي ثاني، وكان إلها منه والد.
هاد الثاني أخذها بالسفينة لإنجلترا لتقابل الملكة، والبلاط الملكي كلّه كان متحمّس لمقابلتها، ليشوف قصة نجاح الإنجليز في ترويض وحوش العالم الجديد، يعني على بلاطة كانت رايحة للإنجليز تا يضحكوا عليها.
هناك في البلاط الملكي قابلت جون سميث وعرفت إنه ما مات، سلّم عليها وقالها: زورينا.
هون بوكاهانتس صارت بين نارين، نار الحب الأول ونار الوفاء لزوجها، وظلّت طول الليل تفكّر.
لمّا طلع الصبح الله هداها وقالت لحالها: خلّي العقل منك يا بنت، اللي عرفك أكيد عرف بعدك سبعين وحدة، ما إلك غير جوزك وأولادك، وأهلك اللي بيستنوكي هناك.
وفعلاً ظلّت وفيّة لزوجها، وركبت معه السفينة تترجع للعالم الجديد، بس المسكينة ماتت عالطريق.

خلص بيكفيكو خراريف.. انطمّوا ناموا..

16‏/12‏/2012

هذربة 2012

مضى وقتٌ كنا نعيش فيه حرفياً فوق الأشجار.. وكنّا "دايرين" طول اليوم في الحارة.. كان جميع أبطال الكرتون يبحثون عن أمّهاتهم.. جعلتنا هذه المسلسلات عاطفيين.. كنت أبكي بسبب وبلا سبب "دايماً دموع".. في عيد ميلادي التاسع عشر انتحبت لأنني لم أعد طفلة.. ومع الوقت توقفت عن البكاء.. في عيد ميلادي الثلاثين لم أشعر بشيء.. وغادر جميع أبطال الكرتون إلى العوالم المتوازية.. والظاهر أنهم جميعاً "مقطوعين من شجرة"..

كان البيت ينتج كل الفواكه الشتوية والصيفية.. وحتى لو لم تزرع صنفاً ما فلن يفوتك صحن "الاستفقادة".. كان أبي يقنّب العنب.. وجدّتي ترابط ظهر كل يوم تحت شجرة الليمون "بتنطرها" خوفاً من أن يغزوها أولاد المدرسة.. اقتلعنا شجرة التين لتنمو مكانها غرفة مع منافعها.. وقطعنا شجرة التوت لأن أمي قرّرت إنها "بتوسّخ وبتجيب ذبّان".. ماتت شجرة الليمون بموت جدّتي.. واستشهدت أشجار العنب تباعاً بعد والدي.. وهذه "حقيقة علمية".. واليوم صارت كل الفواكه تـُشترى من السوق..

كان لجدّتي غطاء رأس أبيض عريض من القطن الخالص.. يغطّي وجه السماء إذا ما ثبّت على حبل الغسيل.. وشعرها ملتهب من أثر الحنّاء.. ولثيابها رائحة موغلة في القـِدم.. وفراشها من الصوف.. وكانت تقيم كل الفروض والنوافل بـ "قل هو الله أحد".. للجدّات اليوم مفهوم مختلف.. أمّي صارت جدّة.. تقرأ وتكتب.. وتصبغ شعرها بـ "غارنييه".. تلبس طقماً من ثلاث قطع.. انتقائية في كلامها وأفكارها.. وتطمس كل شيء بالعطور الفاخرة..

كانت أفواهنا تطحن أي شيء.. وكانت العائلة تأكل من الطبق الواحد.. كنّا نلتهم البطيخ من "الحزّ" مباشرة.. ونلفّ "الدّوالي" سندويشات.. واليوم صرنا "صحّيين" ومتحضّرين.. لكل منّا طبقه.. والبطيخ مكعبات مهذبة تؤكل بالشوكة.. حتى قناعاتنا بأننا لا نستطيع أن نعمل شيئاً غيّروها بكل برامج تنمية الذات والفاعلية.. وأرهقونا بالقدرة على التغيير.. والعادات السبع.. وكورسات الشخصيّة الكارزمية..

كان التلفاز ينام في منتصف الليل.. وكانت السياسة من المحرّمات.. اليوم الجميع يهذي بالسياسة.. وصار حلالاً أن تسبّ الحكومات.. حكومات تتغيّر.. ودول تـُقلب.. ودساتير تـُكتب.. إسرائيل كانت عدوّاً جبّاراً.. يحتكر النصر ويتوّجه بالمجازر.. واليوم هي تـُهزم مع احتفاظها بحقّ المجازر..

كان الهاتف ملكاً "لمن يجرؤ".. واليوم "الهاتف للجميع".. بالأمس كانت الهواتف عاديّة.. واليوم جميع الهواتف ذكيّة.. في الصباح فقط كانت الهواتف الذكيّة باهظة.. وعند الظهيرة "تنزيلات".. بالمناسبة.. "شكراً كوريا الجنوبية"..

خطر لي اليوم أن أندم على ما مضى من لحظات الفهم والذكاء والهدوء والطموح .. كان عليّ أن أكون أكثر جموحاً وجنوناً.. ولو عاد الزمن فلن أغيّر شيئاً.. لأن بعض الأمور سنن كونية وثوابت لا تتغيّر.. فـ "اللوح بيظل لوح"..
من الثوابت أيضاً ارتفاع أسعار الذهب.. وأنيميا الـ بي 12.. وأنّ الصناعة الألمانية هي الأفضل على الإطلاق.. وأنني لن أصبح أبداً أميرة.. 

هي مجرد هذربة.. بمناسبة نهاية العام.. أو نهاية العالم.. 

15‏/12‏/2012

قلبي الضعيف لا يحتمل

بصراحة ما عدت أتحمّل ( المُسْـتـَشقـِرات ).. وشو مشكلة المرأة العربية مع الشعر الأصفر؟
حضرت عرس من أيام وكان فيه بطلع خمسين ( تينا تيرنر ).. عيوني وجعتني و قلبي كمان..
بعدين مش المفروض إنه هالموضة انقرضت؟
يا عمي مش لابقلك.. لوني شعرك بتنجاني أهون..

10‏/12‏/2012

أصمعيات

سأل الأصمعي (*) أعرابياً: لم تسمّون أولادكم بشرّ الأسماء، وتسمّون عبيدكم بخيرها،
فردّ الأعرابي: إنما نسمّي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا.

ومما كانت العرب تسمي به أولادها: حرب ومرّة وكليب ومعاوية، أما العبيد فمن أسمائهم: مرزوق ومسعود وميمون.


 (*) الأصمعي: هو عبدالملك الأصمعي (740 م - 828 م)، ولد في البصرة وتعلّم فيها، حفظ لغة البدو ولهجاتهم، وعهد إليه الرشيد بتعليم الأمين، من مؤلفاته: الفرس والأراجيز والميسر ومجموعة الأصمعيّات، ولولاه لكنا فقدنا الكثير من دواوين العرب وأشعارهم.
 

08‏/12‏/2012

القراءة للجميع


 تبدأ غداً فعاليات مهرجان القراءة للجميع في جميع محافظات المملكة ولمدة خمسة أيام.

تباع الكتب بـ 25 أو 35 قرشاً.

للتعرف على عناوين الكتب ومراكز البيع:


30‏/11‏/2012

دستور الضيعة

أولاً:
نعلن ضيعة غربة دولة مستقلة ذات سيادة.

ثانياً:
حدود دولة غربة:
بيحدها من الشمال شجرة التوت اليبسانة.
ومن الجنوب مزبلة أم سطّوف.
ومن الغرب قهوة غربة.
ومن الشرق حمار الحجة.



27‏/11‏/2012

غرفة 27

قالت: عشنا طول عمرنا بالسجن وما كنا نطلع منّه إلا بالمناسبات.. ولمّا نطلع كنّا نلبس الزي الموحد اللي مكتوب عليه الاسم.. ونروح ونيجي بالباص اللي برضه مكتوب عليه الاسم.. وكلّ الناس تطّلع فينا.. إشي شفقان وإشي قرفان..

صمتت لحظة لتتنهد.. فجوّلت نظري في غرفتها الأنيقة.. كل شيء مرتّب ومهذّب.. على الجدران صور أطفال وزهور.. وملابسها مطوية بعناية.. لم أنظر داخل خزانتها لكنني تصورتها كذلك.. مقارنة سريعة مع غرفتي.. مغبرّة.. ملابسي لم تخرج من الحقيبة منذ أسبوع.. كل شيء بالتأكيد ليس في محلّه.. لن أدعوها لزيارتي.. سأقابلها دوماً هنا..

استأنفت: ما حدا عمره اهتم إذا درسنا أو انجحنا.. ولإنا قضيناها بالحبس.. اطلعنا ما بنعرف نتعامل مع الناس.. الصحيح.. اطلعنا لقينا حالنا بالشارع.. صاحبة هاد المكان فيها خير استقبلتني وبنص الأجرة اللي انتي بتدفعيها.. وبعدين أنا اشتغلت.. وتزوّجت.. واحد يعني زيي..

توقّفت وتناولت كوب القهوة وارتشفت على مهل.. وأنا ما زلت شاردة بالغرفة..

الصحيح ما دامت بيني وبين زوجي.. أصله.. إحنا الثنين معطوبين.. وابتسمت.. 
الحمدلله ما إجاني ولاد.. واتطلّقت.. وارجعت للشارع.. وبس!

ابتسمت.. ماذا يفترض بي أن أقول؟

قالت هي: ما عرفت وين بدّي أروح وفكّرت أرجع هون.. والله صاحبة المكان استقبلتني عادي وأجرتني الغرفة زي زمان.. تصوّري.. رجعت أخدت نفس الغرفة.. رقم 27.. هي نفسها.. شو احتمال إنه هالإشي يصير؟ بس.. هاي حكايتي.. وبكرة راح أرجع أدوّر على شغل.. وإنتي؟

أنا.. أنا طالبة بسنة ثانية.. اتعبت السنة الأولى من المواصلات.. ففكرت آخد غرفة بسكن الطالبات.. وبس! إن شاء الله تتوفّقي وتلاقي شغل بسرعة.. ابتسمت.. وردّت هي الابتسامة..
قالت: زوريني دايماً.. بما إنا جيران والباب بالباب.. 
أكيد..

بدأت بترتيب غرفتي لحظة دخولها..
غرفتي دائماً مضطربة.. وغرفتها كانت هادئة.. غرفتي غرفة طالبة مؤقتة.. وغرفتها هي بيتها..
لمّا قابلتها أول الأمر أمام باب الغرفة رحّبت بي.. وقالت: اسمي هيا.. بس يمكن هاد مش اسمي.. اتفضّلي.. بتحبّي تشربي معي قهوة؟ بس قبل ما تدخلي.. ترى أنا من خريجات الـ (SOS).. بعدك حابة تدخلي؟
فكرت فيها كثيراً تلك الليلة.. وأصابني الخجل من نفسي.. فانهمكت في ترتيب غرفتي..

23‏/11‏/2012

وقفة..

‎(ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين)

فذكر ضيق الصدر مما يرى أو يسمع أو يجد، وأمره بالوصفة المحققة: التسبيح والسجود .. إنه شيء وجدته في نفسي، وأيقنت أن كل إنسان هو كذلك، عرضة لأحزان الطريق .. والدواء القاطع لكل ألم هو التسبيح والسجود.. وصفة سهلة المتناول، بيد أنها تحتاج إلى مران وتدريب، وقد لا تجد أثرها من أول مرة حتى تتحول عندك إلى سلوك وعادة.

سلمان العودة

14‏/11‏/2012

الجحيم الأخير

- أتعلم لم أنت هنا؟ قد وشى بك جيرانك والمقربون منك على استعداد للشهادة.. عندما قبض عليك رجالنا وجدوك على هيئة مريبة.. إياك أن تنكر.. لدينا ما يرغمك على الاعتراف.. لدينا ما يهشّم عظامك ويمزّق لحمك وجلدك..

- لا تقلق لن أنكر شيئاً.. ولن أمتعك بفرصة تعذيبي وتمزيقي..

- إذاً.. أتقرّ أنك كافر وتدين بغير دين الحقّ؟

- أقرّ بأنني أدين بدين آخر.. ارتضيته لنفسي.. وهو عندي حق..

- أتزعم إذاً أن ديننا هو الباطل؟ أتكذبنا وتكذ ّب إلهنا؟

- أنا لا أزعم شيئاً ولا أكذ ّب شيئاً.. أنا فقط أؤمن بغير ما تؤمنون..

- ولم فعلت هذا؟ ولم خالفتنا؟

- قد جعلت إيماني حيث اطمأن قلبي.. ديني أعطاني معناً لحياتي ومماتي.. سعادة أعيش بها.. ونهاية أصبو إليها.. أعين الغريب.. أتسامح مع المسيء.. وأعمل من أجل رضا إلهي..

- وديننا كذلك يعطيك ما تقول.. سعادة وخلوداً..

- لكنّ الطريق إليها غريب.. مخيف ومرعب.. نزعتموني من يدي والدي طفلاً وطردتموهما.. أسكنتموني بينكم.. وفرضتم علي دينكم.. هدّدتموني أن أكون مثلهما وأن أدين بدينهما.. عذّبتم خلاني وقتلتموهم.. أي دين هذا؟

- الدين الصحيح.. دين يطهر الأرض من كل الآثمين..

- لكنّ ديني لا يفعل ذلك.. ديني يترك الناس وهداهم.. كلّ يختار طريقه.. من آمن فلنفسه.. ومن كفر فلنفسه.. ثمّ يحكم بينهم ربهم فيما كانوا فيه يختلفون.. دعوا الناس وما يؤمنون.. خلّوا بينهم وبين ربهم.. فليحاكمهم هو.. 

- قد أعطانا الإله سلطاناً لنحاكم كلّ الكافرين ونرسلهم إلى الجحيم..

- ما أدراكم بأنا نحن الكافرون؟ لم لا تكونون أنتم الكافرون؟ ما دليلكم؟ أجيبوني..

- إلهنا قال ذلك وكفى..

- إلهكم بريء مما تدّعون..

- قد جادلتنا فأكثرت جدالنا.. هيا اصمت.. سنغيب وإنا في أمرك لناظرون..

دامت تلك الغيبة دقيقتين.. وكيف لها أن تدوم أكثر؟
قد اعترف بذنبه.. والحكم بالموت مؤكد..
أرسلوه لسرداب غائر معتم.. لغرفة رطبة منتـنة.. وكان موعده الصبح.. ليساق إلى مصيره المحقّق.. بكى وصلّى وتضرّع.. ونادى في الظلمات.. من لي من مولى غيرك.. من لي من نصير بعدك.. أغثني.. أجرني.. يا ملاذ المكروبين.. طمّنّي.. وقوّني.. وادفع عنّي.. وأصبرني على ما يحكمون..

.. قادوه بعربة الخزي والعار عبر شوارع المدينة والناس يلعنونه ويقذفونه بالشتائم والقاذورات.. وصل إلى ساحة المدينة الكبيرة حيث أعدّت محرقة هائلة من أجله.. جرّه الجلاّد من حبل طوّق خصره بعنف وضربه بقسوة ليحثه على المسير.. شدّ وثاقه بقوة فوق ألواح الخشب الكبيرة..
ونادى المنادي بالناس وتلا آخر سطور حياته..
"حكمت محاكم التفتيش في بلنسية على المدعو جيرونيمو بوينا فينتورا بالموت حرقاً بعد إدانته بجرم الكفر والارتداد عن دين المملكة إلى دين آبائه وأجداده الآثمين."

وقف جلّاده أمامه يحمل بيده شعلة ملتهبة ليغرسها في محرقته.. فنظر في عيني جلّاده وابتسم..
نظر الآخر إليه متعجباً.. أمجنون أنت؟ تبتسم؟ ستموت يا رجل..
- نعم. سأموت.. إن كان إلهي هو الإله الحق فها أنا أموت من أجله.. وقد وعدني بجنّته.. وإن كان إلهكم هو الإله الحق.. وهو الإله العادل كما تزعمون.. فلن يحرقني على الذنب مرتين.. سأخاصمه.. ألم يعطيني نفساً وعقلاً.. فكيف يجرّمني بما ارتاحت وتاقت إليه نفسي واطمأن له قلبي وعقلي..
- ألست خائفاً؟
- لم أكن مطمئناً من قبل مثلما أنا مطمئن الآن.. ها أنا ذاهب إليه.. وسأترك خلفي هذا الجنون..

بدأت الألواح تشتعل.. والناس في هرج ومرج يصرخون ويشتمون.. شعر بالحرارة تصل إلى قدميه.. والدخان القاتم يتكاثف.. استجمع شجاعته وتنفس.. أخذ يردّد.. صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.. صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.. تكاثرت سحائب الدخان من حوله.. وأخفته عن وجوه الناس.. أسرعت إليه تضمّه من كل مكان.. تنفّسها صدره.. وتنشّقها جلده.. احتلّت جوفه..أغمته وأبعدته.. بعدها وصلت ألسنة اللهب إليه.. شرعت تأكل ثيابه وجسده.. لكنه كان غائباً.. فاحترق بصمت.. 
 صمت الناس وهم يشاهدون الجسد الملتهب.. ويشتمّون اللحم المحترق.. ولا يسمعون صراخاً أو عويلاً.. 

ضاق جسده بما احتشا فيه.. وما عادت روحه لتجد مكاناً في هذا العالم يسعها.. فغادرت.. وحلّقت في الأفق.. وتنفـّست.. حلّقت.. فتعهدتها رسلٌ من ربّها.. وسارت بها صوبه.. نسيت روحه كل الكفر والجور والحزن والجزع.. فالآن ستقابله.. وستطلب عنده السلام..

04‏/11‏/2012

حجاً مبروراً

" هذه القصة مستوحاة من أحداث حقيقية.. سمعتها عبر شباك غرفتي.."

ذهبت تلك الستينية لأداء مناسك الحج.. ورافقها ابنها الثلاثيني.. محرماً.. ومعاوناً.. و بعد أن تضرّعا وبكيا.. وجاهدا.. رجعا..
قابلتها بناتها بالدموع.. وكانت زوجته مشتاقة.. وابنته الصغيرة..

قالت لها أمه.. 
- مالك هيك نصحانة؟ مش مخلية إشي من شوكولاتة العيد؟
فردّت زوجته..
- هادا من الهنا.. عشرين يوم بلا شوفة هالحدا..
قالت أمّه..
- هيك بتردّي.. شو بده يطلع منك؟ ما إنتي بنت..... (زامور إنذار الحريق)
فردّت هي:
- ما شاء الله عنكو! اللي بسمع بفزع! مش يعني إنتو ولاد .... ( زامور إنذار القصف)

جرّ زوجته إلى بيته.. وتشاجرا..
- أنا ما بحترم اللي ما بحترم أمي..
- وأنا ما بحترم اللي ما بحترم أهلي..
- ما دامو هالقد غاليين عليكي روحي عندهم.. روحي..
- بتطردني من بيتي يا إبن أمك..
- بس. وطي صوتك.. فظحتينا..
وأغلق النافذة..

جمعت ثيابها وخرجت..
وبعدها وصل المهنئون..
تقبل الله طاعتكم..

02‏/11‏/2012

قوس قزح

إذاً.. إن وصلتني رسالة أخرى عن قصة نجاح ما.. فسأنفجر.. وإن وصلتني تغريدة أخرى للمشاركة بحملة " أنا متفائل وأفتخر".. فسأطلق النار.. وما له التشاؤم؟.. لنحتفل بالكآبة.. إن الأفكار العظيمة لتزورني وأنا أنظّف الحمّام..
وأتراجع عن قرار التعاسة لحظة.. وأشلّ وجهي بابتسامة تافهة.. خوفاً من أن يلقاني أحد ما.. فيسألني.. فاضطر لتلاوة المبرّرات.. والتي لن يصدقها بدوره.. لأنه يريد أن يصدّق مبرراته هو.. " لقد استيقظت اليوم.. لتكتشف أنها قبيحة.. وأنها بدينة.. وأنها غبية.. وأنها عانس.. أكثر من ذي قبل.. "

ويقتلني أنّ عليّ أن أجد المبرّرات.. وأنه من اللازم أن تكون هناك مبرّرات.. مع أنه لا توجد مبرّرات.. سوى.. أنني.. استيقظت اليوم بمزاج حالِكْ.. وأحتاج لأن أكون حزينة.. وكفى !

تحذير:
إن التعليقات الواردة تالياَ تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولاتعبر بالضرورة عن آراء الكاتبة.. مع العلم أن أي تعليقات ستحتوي على كلمات مسيئة ككلمات التفاؤل والمواساة سيتم حذفها نهائياَ.. شاكرين لكم حُسْنَ اكتئابكم..

. . . .

هل تظن أننا ندخل ديناً آخر بالقوة؟
لا، وحتى لو تظاهرنا بعكس ذلك.
الدين خيار عميق وغامض.
نتخبأ وراء دين فرض علينا خوفا، وأول ما تطل سفننا في الأفق، ننسى كل شيء ونهب نحوها ويستيقظ ديننا الأول فينا.

واسيني الأعرج - رواية البيت الأندلسي

30‏/10‏/2012

قمر.. (18) الأخيرة

في عام ما بعينه.. أرسلها محمد لأداء مناسك الحج.. كان الأمر بذاته حلماً.. بدأت رحلتها بسعادة لا تحتمل.. وانهتها بتعليق واحد.. بعد أن ضربها قيظ تلك البلاد.. يا الله.. لولا بيت الله.. لما زار هذا المكان أحد من البشر!
لكنها نالت ثواباً عظيماً.. إلى جانب لقب الحاجة.. "الحاجة قمر".. بدت توليفة الاسم للوهلة الأولى مضحكة! لها وللمهنئين على حدّ سواء.. الذين استقبلتهم لأسابيع وأسابيع.. قد كان لها الكثير من المعارف والمحبين.. والممتنين.. ممن داوتهم يوماً.. أو قرأت من أجلهم أوراداً وصلوات..
وسألها أحدهم عن حال ابنها في الغربة.. وكيف يتعامل مع الحرب..
الحرب؟ نعم.. فهناك حرب قد قامت في الخليج.. لم تكن الجدة قد سمعت بعد بأمر الحرب.. وكانت الكلمة كافية لتجعلها فزعة..

طلبته على عجل.. كلمته على الهاتف.. قالت له.. عد يا بني.. عبثاً حاول أن يطمئنها.. وأن الأمور تسير بخير.. عد يا بني..  أماه.. لنا هنا حياة وأرزاق.. كيف نتركها.. تباً لكل الأرزاق.. عد يا بني..
واصفرّت.. ونحلت.. وكل يوم تكلّمه.. ولا فائدة معه.. وهي تشاهد التلفار.. وبكاؤها لا ينقطع.. سيصيبني الجنون.. حرب أخرى؟ حرب أخرى تسرق مني كل جميل؟ أولادي.. أولادي..
أخفوا عنّي الهاتف.. ومنعوني التلفاز.. لكنّني سمعتهم.. يقولون.. أن الحرب قامت حقاً.. وأن أمريكيا دخلت الحرب..
أصابتها الحمّى.. وهزل على الهزل.. تشوّش عقلها.. صارت تتخيل محمد وكريم يتجابهان.. ويتقاتلان بالسلاح.. وبناتها وأحفادها.. في رعايتها.. ساعة بساعة.. ومن طبيب لطبيب..

حتى كان ذلك اليوم الذي استفاقت فيه مبكرة.. وخرجت إلى حديقتها.. تتنسم بوادر الربيع.. والنرجس قد تفتّح.. والحمى قد قضت.. طلبت من زينب أن تعدّ لها طبق البامياء الذي تحبّه.. فأعدّته بفرح واستبشار.. وقضت بين أهلها ليلة طيبة..
ومضت إلى نوم عميق.. فأخذها الحلم.. وذهبت إلى مكان جميل.. مكان تطمئن له.. وتحبه.. حلمت بالدّكان.. وباللوز.. وبالريالات الفضيّة.. وبرائحة البخور والبرتقال.. حلمت بالسّوق.. وبسنابل القمح.. وببيتها العتيق..

واستيقظت في جوف الليل فزعة..
- يا زينب، مين هدول الرجال اللي داخلين علي؟ أعطوني غطا راسي..
- بسم الله الرحمن الرحيم.. مافيه حد يا يمّه.. الدنيا ليل نامي..
- بحكيلك أعطيني غطا راسي..
فناولتها إياه زينب.. فهي لم تكن لتخشع أو تقنع دونه .. ولفّته حول رأسها.. كأنها تهمّ في الرحيل.. وأسندت رأسها لوسادتها.. ملبّية النداء.. وذهبت في سبات عميق..

لا تجزعي يا قمر..
فما كان هؤلاء رجالاً.. كانوا ملائكة أبرار.. قادمين من أجلك يا قمر.. فاليوم تلقين عليّاً.. ووالديك..
أمّا أولادك.. فقد سلّمهم الله.. من أجلك..
هاهم أمام قبرك ينتحبون.. ينتظرون يوماً يلتقون بك فيه.. في دار أخرى.. دار أجمل وأحلى وأبهى.. في جنّة نعيم.. لا لغوٌ فيها ولا تأثيم..

26‏/10‏/2012

قمر.. (17)

حبات عنب تلمع في وضح النهار.. ووردة حمراء جوريّة.. وعطر ياسمين.. وعشب أخضر.. وزيتون.. وليمون.. ورائحة التراب.. في حديقة لي.. أزرعها.. لمن المُلك اليوم يا قمر؟ الملك دائماً لله.. لكنه اصطفاني اليوم لهذا الملك.. أما كيف وصلني؟ فالحكاية بسيطة..

قد وصلت الحضيض أياماً.. وقبلت الصدقة أحياناً.. إلا أنني ما كنت لاُحزن ولديّ.. فقد رجاني محمد أن يظل في المدرسة.. كم كنت أحتاجه ليعمل.. لكن كانت لديه أحلام كبيرة.. وكريم يقلّده في كل أفعاله.. 
تعبت حتى وصل الثانوية.. ظننت أنني ارتحت.. إلا أنه رجاني أن يستمر.. أراد أن يلتحق بمعهد للمعلمين.. اصبري من أجلي قليلا.. فصبرت.. وحتى عندما أراد السفر للخليج.. صبرت.. وعندما أرسل لي أول ما كسبه.. ارتحت.. حبيبي.. هو من بنى لي هذا البيت.. وملأه من أجلي.. أثاثاً ومتاعاً.. مع أنه لا يساوي في غيابه شيئاً.. ولا في غياب كريم.. الذي سافر هو الآخر.. إلى مكان بعيد.. اسمه أمريكيا.. ولم يبقى لي إلا بناتي.. حبيباتي.. أمطرن حياتي بالأحفاد.. 

والعمر يسير بسرعة ما عادت تدركها قمر.. والعالم تعجز عن فهمه أو اللحاق به.. والزمان توقف عندها في مكان ما.. وهذا ما جعلها محبّبة ومضحكة ككلّ الجدّات..
كانت تعجز عن لفظ الكثير من الكلمات.. تلفاز! احتاجت وقتاً لتتقن هذه الكلمة.. وأسماء أحفادها الغريبة.. نسرين ونادين!! ماذا حلّ بآمنة وفاطمة؟ وكانت تنفعل عندما تشاهد نشرة الأخبار.. وترى مشاهد الحروب.. فتلعن النّجليز واليهود معاً.. وتبكي مع المسلسلات اليومية.. 

وكانت تجيد رواية القصص.. فحدّثت أحفادها عن جدّ اسمه علي.. لم يروه.. لكنّ قصته كانت كقصص الأبطال.. كيف كان يحبها.. وحارب العالم من أجل أن يتزوجها.. كان ناسكاً.. حقاً..
وحدّثتهم عن المقام.. وعن أجدادها الأولياء الصالحين.. وعن يوم الزفاف.. ويوم الهجرة.. وأوصتهم أن يحفظوا عنها ويقصّوا لم بعدهم.. 
كانت تضحك إن سألها أحفادها.. كيف يكون اسمك يا جدتي قمر.. واسم أمي زينب؟ أي منطق في هذا؟ وكانت عيناها تبرق إن سألها أحدهم.. أين ذهبت أسنانك يا جدّتي؟ فتروي قصة ذلك اليوم المشؤوم.. لكنها كانت قصة تعتز بها.. كانت تحكيها بفخر وكأنها مناضلة.. وماذا يملك أمثالها ليفخروا به؟ .. قصصاً ظنوا أنها عظيمة.. وكانوا هم يوماً أبطالها..

23‏/10‏/2012

قمر.. (16)

إذاً زوّجت البنات.. ورحلن عني لمكان آخر.. وسعادتي فيهن منقوصة.. فلا أنا زوجتهن كما أريد.. ولا أنا بحال يخوّلني أن أنتظر ما أريد.. وأبي زاد من سوء حالي واستغل الفرصة.. أرسلي الولدين مع أخواتهم.. وتزوجي.. لم لا تتزوجين؟ هي ذا زوجة عبدالله فعلت.. وأنجبت.. ومن قال لك أنني مثلها؟ وهل واجب علي أن أحذو حذوها؟

سأكمل ما نويت.. وسأُخرج نفسي مما أنا فيه.. أمر اهتديت إليه عندما قالت كُبرى بناتي زينب.. أمّاه لم لا تسكنين جوارنا؟ هاتي أخوي.. ولدينا هنا مدرسة.. وتجدين عملاً.. وتبتعدين عن جدي ومناكفته..
كيف لم أفكر بهذا من قبل؟
وكّلت زوج زينب أن يستأخر لي بيتاً.. فوجد لي غرفة متهالكة.. لكنها تفي بالغرض.. وحملت الولدين ومتاعنا القليل.. وهجرت جوار والديّ لغير رجعة..
استقرّت حياتي سريعاً.. ربما خفّفت عني سعادة بناتي وطمأنت بالي.. فأولاد عبدالله لا بأس بهم.. وأولادي ماضون في درسهم ويكبرون سريعا.. وأنا.. استأنفت صنعة الأجداد.. فيبدو أن لا أحد غيري هنا يجيد تطبيب المريض.. ووصف الأعشاب.. وترتيل الأوراد..

في يوم العيد حدث ما لم أتوقعه.. كنت مشغولة في الدار عندما استوقفني صراغ العيال على باب الدار.. ولداي يرجمان شيخاً كبيراً بالحجارة! ركضت أستعلم الأمر.. وحقاً كانا ولدي.. محمد وكريم.. والشيخ الكبير.. كان أبي!
صرخت وضربتهما واستوقفتهما.. ما بالكما؟
تقدّم نحوهما أبي وسأل.. لم رجمتماني بالحجارة؟
ألست قادماً لتأخذ أمّي منّا؟ وتزوّجها؟
أطرق أبي لحظة بانكسار وأجابهما.. لا، أنا هنا فقط لأفرح معكم بالعيد.. وأخرج من جيبه قروشاً.. وأهدى لهما..
كان هذا اعتذار أبي لنا.. ومع أنه لم يصرّح به.. إلا أنه قضى بيننا أيام العيد.. بسلام.. دون أن يتكلّم في ذلك الأمر..
أما أنا.. فابتسمت في ذلك اليوم.. وأنا التي لم تبتسم منذ زمن.. لا فرحاً بالعيد.. بل فرحاً بأبنائي.. ففي ذاك اليوم عرفت.. أنّ الله قد جعل لي فيهم مولا وجعل لي فيهم نصيراً..

21‏/10‏/2012

قمر.. (15)

ما هذا البلاء؟
ألم أكن بالأمس مدلّلة؟ وكنت عروساً؟ وكنت أجمل البنات؟ وكان لي بيت؟ وحياة؟
سأخرج للعمل.. وأعول أهلي.. سأقتلع عشباً ضارّاً.. أو أحصد قمحاً.. أو أقطف زيتوناً وليموناً.. وليكن ما يكون.. أعرف أنّ أبي لا ييأس.. وأنا كذلك لن أيأس..

الأمر منوط بك يا الله.. أن تدفع عني هذا الهمّ.. أن تعينني على هذا الشقاء.. أن تصبّرني على قيظ الشمس.. والسعي قبل الفجر.. وطول النهار.. أن أتحمّل خشونة يدي.. والتجاعيد التي استراحت جنب عينيّ.. أن يتسع صدري لكلّ ما غرق فيه من الوجع والأحزان.. أن أتقبّل الجوع والعوز.. وطول الأيام.. فالأيام تمرّ علي ثقال.. وكأن عجلة الزمان قد توقفت الآن.. أنتظر تبديل الحال.. وما يتبدّل الحال..

ومن بالباب يا بنات؟
خالي محمد.. عزيز يا خال.. لم أرك منذ زمن يا خال..
جئتني شفيعاً؟
من أجل من؟
أولاد عبدالله؟ وماذا يبغون؟
بناتي؟ مستحيل.. أنت تعلم أن علياً أقسم أن لا يزوّجهم.. علي لعنهم وطردهم.. 
- بس علي مات.. وفكري بحالك وبحال هالبنات.. أولاد عمهم أولى فيهم.. وتسعي على اثنين أهون من ما تسعي على خمسة.. فكري يا خال.. فكري..

أهكذا إذاً.. هذا ما أرسلت لي يا الله؟ خير هذا أم شر؟ أم زيادة همّ وغمّ؟
أقسم الجميع أن الأمر خير.. وسينزع عني عبئاً كبيرا..
لكنني لا أطيق الفكرة.. هل في هذا عصيان لك يا عليّ؟ 
أين أنت منّي يا عليّ؟ وكيف أتصرّف دونك؟
فأنا تعبة..
وأنا مضطرة..
وإن وافقت؟
سامحني يا عليّ..
سامحني يا عليّ..

14‏/10‏/2012

قمر..(14)

القلب جريح.. والجرح عميق.. وإنّا على فراقك يا علي لمحزونون.. الحق الحق.. أن قمر كانت تحبّ عليّا.. وعليّ كان يحبها.. بكل عناده وكل جنونه.. كانت تحبه.. وبصبرها عليه ورحمتها به.. كان يحبها..
والآن.. خلّفتني وحيدة.. لا طاب العيش بعدك..

وهمّ هؤلاء.. من يحمله؟ من يعينني عليه؟ وأبي لمّح أنه ضائق بهم... وما لبث أن صرّح..
ما كادت تنتهي عدّتي.. يريدني أن أتزوّج.. وهؤلاء.. ما أفعل بهم؟

الحل عنده سهل وسريع.. زوّجي البنات.. والولدان.. ألحقيهم بأهلهم.. وهل لهم أهل غيري؟
يريدني أن أرسلهم لأبناء عمومتهم.. من غضب عليهم عليّ وطردهم.. الآن صاروا أهلاً لهم؟ الآن صارو أحق بهم مني؟ 
وأمي تقول.. أطيعي والدك.. بئس الرأي.. وبئس الطاعة.. وعليّ؟ ألا يفهمون أني لن أرغب رجلاً بعد عليّ.. مازال وجهه يلحّ علي وهو يلفظ آخر أنفاسه.. وهو يوصيني خيراً بالأولاد.. كيف أخفّف وطأة اليتم عنهم.. كيف أواجه وجهه إذا زارني في المنام؟

 وماذا سأفعل الآن.. وفي البيت نساء جئن خاطبات.. من جاء بهم؟ من أعلمهم بأمري؟
سأخرج اليوم في حاجة ولن أعود حتى يسأموا.. سأفتعل كلّ يوم حاجة.. ولكنّ أبي لا يسأم ولا يكف.. 
ماذا أفعل كي يكفّ الناس؟ ماذا لو كنت أقبح؟ أو كنت أكبر؟ أوما كان خيراً لي؟ وماذا لو التقطت هذا الحجر.. وكسّرت أسناني.. أولا أنال الأمرين معاً؟ سأبدوا أقبح.. وسأبدوا كمن هرم وسقطت أسنانه.. 
لم تصدق أمي أنني أقدمت على ذلك.. والدماء تملؤ فمي.. ثار أبي.. لم آبه لصراخه وضربه.. فقط فلتكفّوا عني! 

تلك الليلة.. أوت لفراشها بعينين غارقتين بالدموع.. بمن تستنجد؟ ولمن تلجأ؟ أتستنجد بالأجداد؟ هي تشعر  بالقرف من أبيها وأجداده.. والمقام بعيد.. بعيد جداً.. حينها تذكّرت أن لها رباً.. تضرّعت إليه.. ورجته أن يلهمها مخرجاً.. ساعدني يا الله.. ساعدي يا الله..

09‏/10‏/2012

قمر.. (13)

الآن.. آن الأوان ليقف مع نفسه زمناً ويتذكر..
الآن.. وبعد أن صارت الخيمة بيتاً من طين.. وبعد أن صار جزءاً من هذه الأرض..
لا بأس.. فالأرض كلّها أرض الله..
سيتذكّر كلما هوى بمعوله لمّا كان له أرض وهجرها.. ولمّا شقّ بيديه طريقاً ليسير عليها غازيه.. ولمّا بنا بيديه مدرجاً لطائرة قتلت أهله..

كيف استعملونا لخدمة مطامعهم؟ 

سيقف مع نفسه أوقاتاً ليقيّم حاله..
من أجل ذلك أرسل أولاده للمدرسة.. ربما صاروا أحسن حالاً منّا.. ربما تعلّموا شيئاً ما ينفعهم.. شيئاً ما يقيهم حماقاتنا وعنادنا وجهلنا..

سيفكّر كثيراً.. وسيجهد نفسه في العمل.. كي لا يفكّر كثيراً.. وسيتملّكه الإعياء.. وسيسقط فجأة..
لا يدري ما أصابه؟ هو تعب على تعب..
الجسد منهك.. والمعدة تتألّم.. أياماً ينصلح حاله.. وأياماً يغلبه المرض.. وقمر تبخّره.. وتغلي له الأوراق والحشائش.. وتتلوا على رأسه الأوراد.. ولا يبدو أن شيئاً منها ينفعه..

سيجبره ذلك على أن يزور الطبيب.. وسيرسله الطبيب للمستشفى.. حتماً الأمر ليس بهيّن!
ستجري له المستشفى عملية جراحية.. وسيـُشقّ بطنه.. وسيقضي شهراً بعد ذلك يتعافى..  
إلا أنه لن يتعافى.. وسينتفخ بطنه.. وسيلتهب جرحه.. وسيستصدر دماً وصديداً.. والطبيب يداويه ويهتمّ بجرحه.. وليس الأمر إلى تحسن..

أمره الطبيب في الذهاب إلى المنزل.. وكيف يطلب منه ذلك وحاله ليست بأفضل؟
هل أيس الطبيب من شفائه؟
هو يشعر بذلك.. يشعر أنه لن يبرأ.. أن أيامه إلى زوال.. من أجل ذلك قرّب قمر منه وأسرّ لها بصوت مرتجف..
محمد وكريم راح يتربوا أيتام يا قمر.. زيي أنا وعبدالله..
وبكى علي..
وانتحبت قمر..

04‏/10‏/2012

قمر.. (12)

أسمينا الولد كريم.. طمعاً في وجه الكريم.. أما الأسى.. فمرّ في أوله.. منتن في أوجه.. حتى إذا مضى عليه حين.. تعتاده.. وتنشغل عنه.. فلا تعود تحس بطعمه.. ولا تشمّ له ريحاً..
وخرج علي يبحث عن عمل.. فهذه الأرض تصلح للزراعة.. وأعود لعملي كفلاح.. عمل هجرته لسنين.. واستأجره أحد المالكين.. وعمل عليّ بكدّ.. من الإشراق حتى المغيب.. وحيناً لبعد المغيب.. بين يديه أنفسٌ كـُثر ليطعمها.. أمّا والد قمر.. فاستأنف صنعته.. بسرعة ونجاح.. فصنعة الخرز والتمائم لم تكن يوماً بكاسدة..

هل كان على همّه أن يزيد؟
جاءه أبناء أخيه عشاءً يبكون.. ما الخبر؟
أمي يا عمّاه.. أمّي تزوجت..
تزوّجت؟ كيف؟ وممن؟ إبراهيم؟ زوج الثنتين والثلاث؟ هل جنّت أمّـكم؟
أقنعها.. أغراها.. لا ندري كيف.. 
لكن أنا أدري كيف.. ولم.. 
وفكّر علي أنّ هذا الرجل يشبه أخاه قليلاً.. فهو ربما طامع بشيء.. ربما هو طامع في أرض الأرملة! الجميع هنا يتحدث بأننا عائدون.. هو أمر عارض.. ونحن لا محالة غدا راجعون.. لا أحد هنا يفهم شيئاً!
لا بأس ياعمّاه.. دعوها وما صنعت.. تعالوا.. طاب خاطركم.. عيشوا بيننا.. واعملوا معي.. وأزوجكم بناتي.. أنتم في النهاية أولادي..
وأوصى قمر بأولاد أخيه خيراً.. وأوصاها أن تعدّ ما يكفي من الطعام.. فالآن هم لا أمّ لهم..

لمّا عاد ليلاً وجدها مضطربة.. ما الأمر؟
ذهبت لأدعوهم إلى الطعام فم أجد خيمتهم..
أسرع علي يبحث عنهم.. سأل هنا وهناك.. حتى قال له أحدهم.. غادرت أمهم مع زوجها لمخيم آخر.. وجاءتهم صباحاً تدعوهم للمضي معها.. نزعوا خيمتهم ولحقوا بها!

الحمقى!!
أيكونون خيراً من أبيهم؟ أو خيراً من أمهم؟
والله لا ألحق بهم.. والله لا أكلّمهم.. والله لا أزورهم.. والله لا أزوّجهم.. والله.. والله..
وطبعاً.. كان أن برّ علي بكل ما أقسم..

01‏/10‏/2012

قمر.. (11)

هُزم العرب بطائرة واحدة.. ووقـّعوا على هدنة خاسرة.. أمّنوا انسحاباً لهم تاركين الناس لمصيرهم.. لهم إله هو أولى بهم.. حتى إذا دخلها أعداؤنا.. أنذروا الناس.. إمّا القتل وإمّا الرحيل.. صارنا عبرة لمن حولنا.. وفيهم أيضاً دقّ ناقوس الرحيل.. لملم الناس على عجلٍ وخوفٍ أشلاءهم في صُرر باهتة.. وغلّقوا الأبواب.. وهاموا شرقاً وغرباً.. يبتغون الملجأ.. 

جمع علي أهله وأرملة أخيه وأولاده.. ومشى كما الناس لا يدري إلى أين.. التفّ الناس حول بعضهم.. لنمش ِمعاً متقاربين.. لا تفرّقنا الدروب.. وقمر تنظر في كل الأنحاء تبغي أهلها.. فهم علي مرادها وبحث معها حتى وجدهم واقترب منهم.. نظر في عيني خاله.. وهو الذي لم يحدثه منذ سنين.. بادره خاله بالكلام.. امشوا معانا خليكم قريبين.. أومأ علي برأسه موافقاً.. حاضر. وفي عينيه دمع ثقيل..

مشينا ومشينا.. كلّما أجهدنا نحطّ الرحيل.. تحت شجرة أو على أبواب قرية.. من القرى من أنزلنا زمناً.. ومنهم من أبوا أن يضيّفونا.. خوفاً من أن نحمل إليهم مصيرنا.. وشيئاً فشيئاً بَعُد أناس.. وتفرّق أناس.. واقترب أناس.. أمّا قمر.. فأثقلت بحمل ٍلم تكن تدري به..
مشينا ومشينا.. حتى وصلنا نهر الأنبياء.. وجاوزناه إلى أرض غائرة.. حارّة ورطبة.. هناك وجدنا أفواجاً من الناس.. تجمعهم خيام وبؤس ونكبة وطن.. سكنّا بينهم.. ومثلهم أرهقنا الجوع.. ونزلت بنا الأوبئة..

ثمّ حلّ بيننا مسؤولون .. وزّعوا الطعام والخيام..  وقالوا أنتم لاجؤون.. ونحن لكم مغيثون.. قد صار لكم قضيّة! لن يسكت العالم عن هذه البليّة!
وأنجبت قمر بمشقة أوّل أبناء الهجرة.. صبيّاً لن يعرف الوطن.. إلا في قصص أمّه.. وخيالات عودته..

26‏/09‏/2012

قمر.. (10)

الخبر صحيح؟ أهناك حرب؟ تواترت الأنباء عن قتل ونهب واحتلال..
يقولون أنّ للإنجليز يداً في هذا الأمر.. واليهود ماذا فعلنا لهم؟ أليسوا يسكنون هنا مذ بدأ الزمان؟ ماذا يريدون؟
يقول البعض إنهم قطاع طرق.. مجرّد قطاع طرق! مستحيل ما تقولون!
وهذا التسلح في المعسكر الإنجليزي؟ والمدد الذي أغرق المكان بين ليلة وضحاها؟ سيقاتلوننا حتماً..
إذاً سنقاتلهم.. بم؟ كم واحد منا يملك سلاحاً؟ ولو؟ بالعصي والحجارة والأيادي.. وهل تجدي نفعا أمام هؤلاء؟

الخبر صحيح إذاً! وإلاّ.. لم جاء إخوان لنا من العرب يحملون السلاح؟ من عراق وسعودية ومصر وأردن وشام.. من مكان نعرفه ومكان لم نسمع عنه قط.. افسحنا لهم مجالاً في القرية.. سيفدوننا بأرواحهم.. باسم الأخوة.. باسم العروبة.. باسم الدين..

اشتبكنا مع العدو حول معسكره على أطراف القرية.. لن يدخلوها سالمين.. صمدنا زمناً وألحقنا بهم المتاعب والمخاسر..
ضربوا علينا حصاراً.. شهراً تلو شهر.. من قال أن الحصار يجدي نفعاً مع الفلاّحين؟ من مثل الفلاّح يجيد صنعة الخبء والادخار؟  ما زلنا صامين.. لن يدخلوها سالمين..

ما هذا الطنين الذي يصمّ الآذان؟
في السماء قادم غريب.. عرفها جنود العرب.. طائرة مقاتلة.. ما عساها تفعل بنا؟
بدأت تقذف النار.. بلحظة فارت الأرض غباراً ورماداً ولهيباً.. حرّقت المكان.. في الغالب استهدفت جنود العرب.. ونكّلت بهم أيّما تنكيل!
ما الذي جرى للتو؟
غابت الطائرة وخلّفت طقطقة لهيب مستعر.. ونشيج بكاء خافت.. هرع الناس كالمصروعين ليتفقدوا بعضهم.. قمر وعلي وأولادهم.. الكل بخير..
ركض علي صوب بيت عبدالله.. لم يجده.. كان في حقله.. الحقل فارغ.. ركض يمينا وشمالاً كالمجنون.. قال أحدهم.. كل من كانوا في الحقول لجؤوا لمغارة قريبة.. ركض صوب المغارة.. أمن جوارها يتصاعد هذا الدخان أم منها؟ يالله! المغارة ركام.. وتحت الركام؟ انقضّ الرجال عليه يدفعونه مرتجفين.. وانحسر الركام عن أشلاء..
يا ويلتاه! يا عبدالله!

23‏/09‏/2012

قمر.. (9)

يقول البعض أن النـّحس يسقط بعد الرقم أربعة.. والبعض يقول أنه يسقط بعد الرقم خمسة.. البعض أصرّ أن الرقم هو بالتأكيد ثمانية.. نعم ثمانية.. لكن.. بالنسبة لقمر.. فقد استبقت كل التوقعات.. ثلاثة.. فقط ثلاثة.. 

ثلاث بنات فقط.. والرابع ولد! ولد.. ولد.. أخيراً.. جاء الولد.. فرحة علي لا توصف.. فرحة أبلغ من نشوة الانتصار في معركة!
والصبي حصد جمال أمّه وكل جدّاته وأجداده الذين سبقوه.. حتى أن عمّه عبدالله قال مشكّكاً.. من وين جايبين هالولد؟ لتكونوا سرقتوه من عند النّجليز؟ اتق الله يا رجل! ألم تعلم من هي أمّه؟ 

وكما قال المثل.. الزين ما بيكمل.. فإن نكد هذا الصبي محى كل أثر لجماله.. كان بكّاءاً.. ليلا ونهارا.. أضجر أهل بيته وكل الجيران.. أغاظ والده وأرهق أمّه.. لم يعرف أحدٌ ما باله.. ممسوس؟ محسود؟ أم أنه ورث عقل أخواله الصّدئ؟ طبعاً هذا كان رأي علي..
وصلة البكاء لم تكن لتتوقف إلاّ لمصّ الحليب أو لغفوة هاربة.. ويعاود هذا المغضوب البكاء..

وجب فداؤه بإسالة دم.. ذبح عليّ كبشاً ذهب بكلّ ماله.. لا بأس! فداؤك.. لكن اسكت! ما أنا بساكت!
أنجدني يا أبي.. إليكِ الخرز والتمائم.. وصلّي واستنجدي بالأجداد.. عبثاً تحاولون.. 
قال شيخ المسجد.. الولد زعلان من اسمه.. اسمه مش على هواه.. شو سميتوه؟ أسميناه عبدالله على اسم عمّه.. لا بد من تغيير هذا الاسم.. ماذا تقترح لنا؟ اسموه محمد.. على اسم نبيّنا محمد..
هل هي الصدفة؟ أم الحظ؟ أم أنّ الأمر حقيقة؟ لا ندري.. إلاّ أن الكلّ قد أجمع على أن هذا الولد صار أهدأ.. 
لكن..
إن كان هذا الولد قد هدأ فإن غيره قد رفع اللواء.. بدا الأمر وكأنه وباء.. كلّما ولد طفل لم ينقطع عنه البكاء.. والناس في حيرة.. ما الذي حلّ بنسل هذه القرية؟
إنّ العويل ليملأ المكان.. وصدى البكاء صار يخرج من الأرض ويهبط من السماء.. ما الذي يراه الأطفال ولا نراه؟
الحزن يلفّ المكان.. وتراءى للناس شعور غامض.. شعور ليس بالجيّد.. شعور ينبئ أن أمراً ما سيحصل.. وهو حتماً ليس بخير..

16‏/09‏/2012

قمر.. (8)

أربعون عاماً خلت من قرن مضى.. والعالم كما نعرفه قد تغيّر..

هناك مدرسة للبنين وأخرى للبنات.. وعيادة طبية.. ودار للبلديّة.. وصار للناس وثائق يتعاملون بها.. وازدادت الآبار.. وصلحت الزراعة.. وأخصبت الأرض.. وأخصبت البيوت.. و زاد العيال وطالت أعمارهم..

ولعبدالله اليوم خمسة صبيان وصبيّة.. ولعليّ ثلاث صبايا.. زينب.. والتي تضاهي أمها جمالاً.. هاجر.. صوت العقل في العائلة.. و زهرة المدللة.. والتي في الغالب لا تصلح لشيء..

لكن شيئاً واحد لم يتغير.. ولا أمل في أن يتغيّر.. ما في نفس علي تجاه خاله.. ما زال عليّ غاضبا رغم السنين.. وما زال يرمي ما في نفسه في وجه قمر كلّما سنحت الفرصة.. وما زالا يتشاجران.. هو لا يطيق أبوها.. وهي لا تطيق إهانة أبيها..
وما زال عليّ يبحث عن مخرج مما هو فيه.. حتى وجد..  

أقيم معسكر إنجليزي على أطراف القرية.. ودعا المجنّدون الشقر الفلاّحين للعمل لديهم.. هم بحاجة لعمالة.. من ينقل أحجاراً.. ويساهم في شقّ طريق.. حتى أن البعض تكلّم عن بناء مطار للطائرات! 
والأجر.. لا بئس به.. قرشان أو ثلاثة لليوم.. وبإمكانك أن تشتري ما تريد.. فبالمال تشتري القمح والعدس بدلاً من أن تزرعهما..
أدار عليّ الأمر في رأسه.. واتخذ القرار.. قال لقمر..
- راح اتركلكم الأرض اشبعوا فيها.. خلي أبوكي وأخوكي يزرعوها بدل ما هم شاطرين يضحكوا عالناس..
اللعنة! كيف يتجرّأ على والدي هكذا؟
وتشاجرا من جديد..

لم يلق لها علي بالا ونفـّذ ما في رأسه.. وهكذا توقف فجأة عن الذهاب لأرضه..
وماذا عسانا أن نفعل.. قد جُن الرجل.. وسيغضب أبي كثيراً.. أعينيني يا أمّاه!
قالت فاطمة.. إن حماقات الرجال كثيرة.. دعيه وما هوى.. فليفعل ما يريد.. لاتصعّدي الأمر.. فلربّما غضب وطلقك! دعي خلافات الرجال للرجال..

ولمّا علم والد قمر أسرع للحقل فلم يجد عليّا.. وأسرع لبيته فأكدت قمر الأمر.. وغضب كثيراً.. واعتبر الأمر عصياناً.. لكنّ علياً ببساطة.. لا يأبه لغضب أحد.. وخاله لن يكلّمه حتى يعود عمّا فعل.. وهو لن يأتمر بأمر أحد..
وهكذا.. توقفا عن الكلام.. وستدوم هذه القطيعة عدد سنين!

11‏/09‏/2012

قمر.. (7)

كلّه منوط بموافقة الشيخ حتى يتمّ هذا الزواج.. ليس الشيخ والد قمر من نعني.. بل الشيخ الذي يصلّي بالناس ويزوّجهم.. شيخ من نوع آخر.. 

المسألة كالتالي.. إن شعر الشيخ أنّ الفتاة صغيرة.. فسيرفض عقد القِران.. وقمر فتاة نحيلة ضئيلة الحجم.. هي أقرب للقصر منها للطول.. فماذا علينا أن نعمل؟
احتارت فاطمة.. وفكّرت ثمّ فكّرت.. ثمّ قدّرت.. عليّ أن أجعلها تبدو كبيرة.. ألبستها ثلاثة أثواب.. فوق بعضها البعض.. وشدّت خصرها برباط.. فانتفخ أعلى الثياب.. وبدت وكأنها مكتنزة الجسم ممتلئة الصدر.. لا بدّ للحيلة من أن تنجح!

ومنذ متى عجزت النساء؟ بالطبع.. أثمرت الحيلة.. وعُقد القِران.. 

والآن الاستعدادات على أشدّها.. وعلى فاطمة أن تتفاخر بكل شيء حتى النهاية.. جمال قمر.. ومهرها الغالي.. وكساؤها.. وضعت ثيابها وفرش دارها في عربة تجرّها الدّواب.. وزينتها بالورود.. وتبعت العربة وهي تغنّي.. وجمعت حولها النساء يغنين حتى بيت العروس.. وأشهدتهنّ على فرش الدّار..

وقمر سعيدة جدّاً.. لا تكاد قدماها تحملانها.. ولمّا ارتدت ثوب الزّفاف بدت فاتنة جداً..
أحضرت فاطمة ورقة بالية وإبرة.. وانهالت على الورقة ثقباً.. من عين أمك وأبوكي.. ومن عين علي وحسن.. ومن عين عبدالله ومرتو.. ومن عين خالتك حليمة وخالتك مريم.. ومن عين جارتنا أم عادل.. ومن عين.. ومن عين.. ثقبت فاطمة كل عيون القرية.. ثمّ احرقت الورقة.. زال الشّر الآن..
و زُفّت قمر لبيت عريسها.. ونالت زفافاً كما تحب وترضى وتتمنى..

لمّا جنّ الليل.. شعرت قمر بالغربة وأجهشت بالبكاء.. ولمّا حلّ الصباح قرّرت قمر العودة للبيت!
عبثاً حاول معها عليّ.. لأنّها داومت على العودة..
حسناً.. كيف نقول هذا ولا يصيبنا شيء من الإحراج.. قد احتاجت قمر عدد سنين حتى تنجب الأولاد..

تدخّلت فاطمة.. يا حبيبتي يا قمر ترى كلنا عُفنا أهالينا.. هيك هي الدنيا..
لا سميع ولا مجيب..
اتخذت فاطمة موقفاً حازماً وأمرتها بملازمة بيتها.. لا تخرج منه دون إذن عليّ.. وإلاّ..

نظرت له بعينين ذابلتين.. واستأذنته بالذهاب.. رقّ قلبه.. وسمح لها اليوم بالذهاب.. وسيسمح لها غداً.. وبعد غد..
وسيصبر علي كثيراً..
كان الله في عونك يا علي!

08‏/09‏/2012

قمر.. (6)

غمّة وكآبة تلف عليّـاً منذ شهور..
هل حزن لأن عبدالله قد سبقه إلى الزواج؟ أم شعر بالغيرة؟
- هم مفكرين إني زعلان لإنه عبدالله تزوج وأنا لأ.. بس أنا مستفقدله لعبدالله!
بهذا أسرّ علي لقمر.. فأومأت برأسها موافقة.. هي أيضاً تفتقده! 

علينا أن نطمئن باله.. فهو سائر صوب هذا الطريق لا محالة.. 
علي.. أنت غال ٍعلي.. سأزوّجك أحلى البنات.. سأعطيك قمري.. فقط انتظر عامين أو أقل بقليل.. حتى تكبر قمر..
استعدّ من الآن.. ربما انشغلت بإصلاح بيت والديك.. ابتسم علي.. على أمرك يا خال.. 

 فرحت قمر وتأهب علي.. ودون أن نشعر.. مضى الزمن.. وحان الميعاد.. وناداه خاله من أجل حوارٍ جادّ..
- بتعرف يا خالي إنه قمر غالية علي.. ما كنت راح بعطيها لأي حد.. وبنتي الغالية مهرها غالي.. وبتحكي فيه الناس.. الأرض اللي ورثتها عن أهلك..

اصفرّ علي لهول ما سمع..

- ما تخاف يا خال.. ما الأرض بتظل في عيلتنا وإنت اللي راح تزرعها..

كان عاجزاً عن النطق ولو بكلمة..

من أجل من سأزرعها؟ من أجلي أم من أجلك؟
ثمّ كيف تكون أرض أهلي مهراً لابنتك؟ هي ليست غالية لهذا الحد.. أنت ببساطة تريد الاستيلاء على أرضي.. 
لكنّ خالي رعاني في يتمي وأنفق علي.. تباً! لم ينفق علي.. ألم نعمل سنيناً ونـَطـْعم جميعاً من كدّ هذا الحقل..
ماذا عساني أن أقول؟ لخالي فضل علي.. بل كانت رعايته لي واجبة.. تبا! ألا أتزوّج أي بنت أخرى؟

ما زال عاجزاً عن النطق..
فتركه خاله حتى يفكّر بالأمر..

شعر بالاختناق.. عجز عن النوم.. وقبل أن ينفلق الصبح كان أمام بيت عبدالله.. أسرّ له بالخبر.. علّه يجد له مخرجاً..
لم ينزعج عبدالله ولو نصف انزعاج علي.. وماذا عسانا أن نقول لخالي.. وكيف نتجرّأ على أن نرفض طلبه؟ ومنذ متى يتجرأ الأبناء على والديهم..
تباً له.. ليس بوالدي.. وتباً لك.. أليست أرضي وأرضك؟
أم لأنك تزوّجت أرضاً وبيتاً ما عاد شيء يهمّك.. أحمق.. بعت نفسك لحموك..

غادر عليّ على غير هدى وغشاوة تعمي بصره وغمّ يثقل صدره.. وألقى بهمّه على فأسه.. وانتقم من تراب أرضه..

في المساء كلّمه خاله بالأمر من جديد..
ما زال عاجزاً عن النطق.. مع أنه يريد أن يقول الكثير..
لم يعرف ماذا وماذا سيقول.. لكنّه يعرف ما وجب عليه أن يقول..
استجمع شجاعته.. وببعض كلمات نطق..

على أمرك يا خال..

ثمّ هرع إلى خارج الدار.. واغرورقت عيناه بالدموع..  

05‏/09‏/2012

قمر.. (5)

في بيتنا فرح.. والعرس عرسنا..
من أجل ذلك طرّزنا الثياب.. ونقشنا الحنّاء.. واكتحلنا..

عبدالله راغب في الزواج.. وما كانت أي امرأة لترفضه.. فتيّ.. بهيّ الطلعة.. حلو المنطق.. مجدّ في العمل.. والأهم.. قرابته من الشيخ.. نسبٌ لا يفرّط فيه أحد..
عبدالله راغب في الزواج.. من امرأة محدّدة.. فعبدالله يجيد التخطيط للمستقبل.. يتيمة مثله.. لها ولأمها بيت وأرض.. ولا وريث آخر ينازع!
بإمكانه أن يسكن بيتها ويزرع أرضها وكل ما لها.. له في النهاية..
بالطبع وافق خاله! أما زوجة خاله.. فاطمة.. فأسرعت إليها خاطبة..

في بيتنا فرح.. والعرس عرسنا..
في الليلة التي سبقت الزفاف.. ارتدت أمّي غطاءً للرأس بهيجاً.. خيطت فيه قطع فضّية انسدلت حول وجهها.. وعدتني أمّي أن يكون لي مثله يوم أتزوّج..
خرجت أمّي وعلى رأسها صينيّة من قش مجلّلة بالزهور والعطور وأوراق الليمون تحمل صُرراً من حنّاء.. ودقّت الأبواب.. وزّعنا الصّرر على النساء.. وحملنا المشاعل.. وسرنا وغنّينا حتى بيت العروس..
ارتدت العروس ثوباً مطرّزاً بالحرير.. وتزيّنت بالذهب.. وشرعت النساء بتحنئة يديها وساقيها.. رقصٌ وغناء وسهر..

ويوم الزفاف.. استحمّ عبدالله ولبس جديد الثياب.. وعطّرته أمّي بالبخور.. امتطى صهوة جوادٍ مزيّنٍ بالمناديل الملونة والورود.. 
يُزف العريس إلى عروسه في موكب هازج.. يعبر الموكب كل أنحاء القرية ويحشد الناس.. يتقدّم الحدّاء الرجال.. وتليهم النّساء.. يغنّون ويرقصون.. حتى يصل العريس عروسه.. لهما عرسٌ وفرح.. ولنا بهجة ومرح..

عقبال علي يا فاطمة.. بهذه الكلمات اختتمت النساء الليلة..
ومتى يتزوّج عليّ يا أمّاه؟ يوم تتزوّجين أنتِ.. يوم أتزوّج؟
الله الله! متى أتزوّج؟
أخذت قمر تحلم بيوم الزفاف.. يوم تتزيّن بالحنّاء وتغنّي من أجلها النساء..
لكنّها غفلت عن السؤال الأهم..
لم يكون يوم زفافها هو يوم زفاف علي؟

31‏/08‏/2012

قمر.. (4)

ربما كانت قمر في الثامنة لمّا ولد الصبي الجديد.. والذي قـُدّر له أن يعيش أعواماً وأعوام.. ربما سيعيش حتى يبلغ المئة عام.. ما زال حيّا حتى الآن!
زاد عدد الذكور واحداً.. أبي الشيخ وعلي وعبدالله وهذا أخي حسن..

لحظة! ففي غمرة احتفائنا بقمر سهونا عن علي وعبدالله..
كانا شابين يافعين.. يخرجان صباحاً يعملان في الحقل.. ويعودان وقت المغيب يتناولان مع العائلة العشاء.. وينامان في صحن الدّار..وكانا لي أخوين.. هكذا اعتقدت قمر..

إلّا أنّ عقيدتها هذه اهتزّت لمّا نادا الناس والدها بأبي حسن.. كانت تدرك أنّ الآباء ينادون بأسماء أولادهم.. ولكن لم لا ينادونه بأبي علي؟ أو أبي عبدالله؟
سألت أمّها: يمّه، مش علي وعبدالله إخواني؟
- لا مش إخوانك. علي وعبدالله أولاد عمتك زينب، ماتت ومات زوجها، علشان هيك عايشين معانا..
حسناً.. انكشف اللّغز..

تعافت فاطمة من آثار الولادة.. وكانت قد ربحت بعض النقود.. هدايا من أجل الصّبي الحسن.. فوضعت سلّة هائلة من القش فوق رأسها.. وجذبت قمر من يدها.. وخرجتا إلى السوق..

السوق.. ما أجمل السوق! المئات من الناس.. نعم المئات.. من هذه القرية وممّا حولها.. افترشوا الأرض مع بضائعهم.. ومن الغرباء من نصب خيمته ليقضي ليلته.. وغداً صباحاً يبارك رحلته وبيعته بزيارة المقام..
خيوط حرير.. حلوى.. قماش.. أصواف.. برتقال.. عدس.. تمر.. الكثير الكثير.. ما أجمل السوق! أبهى من العيد.. أريد من هذا ومن هذا.. قالت قمر..

هناك رجل يعرض بضاعة غريبة.. جزمة عسكرية بساق طويل.. لبسها الرجل.. وتمشى بها يستعرض ثباتها ومتانتها.. ويمتدح دفأها شتاءً ومقاومتها للأوحال.. ليست كالتي يلبسها أبي.. لم لا نشتري له واحدة؟ لا.. كان الجواب.. ولم لا؟
- هاي زي اللّي بيلبسوها النّجليز.. بيبيعونا أغراضهم.. وبعدين بيعملوا على دورنا غارة وبيقولولنا إنتو سرقتوهم..
اللّعنة! ما هؤلاء النّجليز؟ يبيعوننا شيئاً ثمّ يتهموننا بسرقته!

تذكرت قمر فجأة تلك القرود التي تحدّث عنها الخال محمد.. لم تكن قمر قد رأت إنجليزياً واحداً بعد.. لكن.. وعندما ستراهم.. ستدرك أنهم بشر مثلنا.. لكنّهم.. شئنا ذلك أم أبينا.. كانوا سلطة حاكمة!

28‏/08‏/2012

قمر.. (3)

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ عالم قمر كان راكداً أو تلقائياً.. بل على العكس.. كان حافلاً وفضولياً..

فمن أبيها الشيخ الذي شفى المصروعين.. وببخوره دفع الحسد عن المحسودين.. وبأوراده فرّج همّ المكروبين.. ومن القصص التي رواها عن الأجداد الأولياء الصالحين.. تشكل عالمها الكبير..

كانت تلازمه مع كل زائر.. وترقب عن كثب.. وترهف السمع.. وتتعلّم.. وتتطلّع للجائزة النهائية.. بيضة أو قطعة فضيّة أو دعوة هنيّة من موجوع فقير..

كانت قصص الأجداد أجمل ما يروى قبل النوم.. ذاك الجدّ الصالح الذي امتلك حقلاً للبطيخ.. وأغار عليه لص تحت جنح الظّلام.. فانقلب البطيخ إلى حجر صوان ثقيل.. كرامة لذاك الجدّ الجليل..
أو قصة جدّ آخر.. هاجم بيته قاتل شرير.. وما أن وضع يده على مقبض الباب.. التصقت يده به.. وعجز عن ولوج العتبة..
أو الجدّ الذي يعلم ما تحمل أرحام النساء من صبيان أو بنات.. بمجرّد لمس بطونهن!

وكيف لو حدّثناكم عن المقام؟ مقام "سيدي السّلام".. لن تنسى قمر أبداً زيارتها الأولى للمقام.. لمباركة الخال محمد..
ربما يجدر بنا أن نتحدّث قليلا عن الخال محمد قبل أن نستأنف حديث المقام..

محمد هو بالطبع شقيق فاطمة .. أخذه الترك جنديّاً في حربهم.. ولمّا انهزم الترك.. ألقى محمد السلاح وفرّ من الجنديّة.. هكذا.. أطلق ساقيه إلى الريح!
لم يعرف حقاً أين كان.. لكنّه مشى حتى الوطن.. تتابعت عليه الفصول.. وأمطرت عليه السماء.. وانقطعت به السبل.. أكل الصدقة وأوراق الشجر.. وصل في سيره بلاداً غريبة.. وقابل مخلوقات عجيبة.. قابل القرود! كم أسهب في وصف القرود.. بدت من وصفه بشعة جداً!
كاد أن يحيد عن الطريق عندما عمل من أجل أن يجد ركوبة.. فقد تمزّقت قدماه.. فوقع في غرام بنت ربّ العمل.. كاد أن يتزوجها لكنّه تدارك نفسه وعاد إلى رشده.. عاد للوطن..
كان يعلم أن هناك قمراً ينتظره في الوطن.. كانت قمر تضحك دوماً عندما يقول هذا الكلام.. وكان يأخذها للدّكان.. ويملأ حجرها جوزاً ولوزاً.. ألا يستحق هذا الخال كل اليُمن والبركات؟

 كان صباحاً باكراً ارتدت فيه فاطمة ثوب المناسبات.. ومشّطت جدائل قمر وزيّنت عنقها بقلادة من خرز.. وتناولت ثلاث دجاجات.. وراية خضراء.. وبرفقة بعض الجارات سرن حتى المقام منشدات... " سيدي السلام.. عليك السلام.. لبّي النِدا.. لا تخيّب رجا.. زوّار المقام ". 

ليس المقام سوى حجر كبير.. غرست في جواره الرايات.. وهناك غرست فاطمة رايتها ونحرت الدّجاجات.. وسقت جوار القبر بالدّماء.. ومن ثمّ أعطت الدّجاجات لخدم المقام.. ترى ماذا سيفعلون بالدّجاجات؟ هكذا فكّرت قمر..
قرأت فاطمة الكثير من الدعوات.. وترجّت وتضرّعت.. وتمسّحت بالقبر.. ومسحت على وجه قمر وعلى ثيابها..

لا يظنّن أحد ما خطأ ً أنّ الله لم يكن موجوداً في ذلك المكان.. كان الناس يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويدعون الله..
لكنهم  كانوا خطأ ًيظنّون.. أنّ قدرة الأجداد لا تعدلها قدرة أخرى!

25‏/08‏/2012

قمر.. (2)

لمّا ولدت قمر.. كان كلّ شيء بسيطاً.. وأبسط الأخبار قد تشغل الناس زمناً..
قمر!! اسم استثنائي في ذلك الزمان والمكان.. من سمع بهذا الاسم من قبل؟!
أثار الخبر جلبة.. وحفّز فضول نساء القرية ليتوافدن أفراداً وجماعات لرؤية هذا القمر..

لمّا ولدت قمر.. لم يكن مقدّراً أن ينجو الكثير من الأطفال.. وكانت الحمّى كالمنجل في موسم الحصاد.. متى زارت القرية.. لم تبق ولم تذر..
ورغم ذلك.. ستعيش قمر.. وككل البنات.. ستتعلم الطبخ والكنس والغسل.. وستجلب ماء البئر.. ولن تتميّز سوى بالتمائم الكثيرة التي صنعها من أجلها أبوها.. لتحملها معها لكل مكان..

لمّا ولدت قمر.. كانت عجلة الزمان تدور بسلاسة.. والكل يعيش هكذا.. لأنها الحياة..
لم ينشغل أحد بأي من تلك الأسئلة الوجودية.. من أنا؟ ولم خلقت؟ بدا وكأن كل شيء كان مفهوماً..
رغم ذلك قد خطر لقمر أن تسأل أمها سؤالاً عن وجودها..
- يمّه أنا كم عمري؟
طبعاً لم يكن للسؤال معنىً لأن قمر لا تعلم عدد السنين والحساب.. وكذا أمها لا تعرف.. لكنها أعطتها جواباً على أية حال..
- إنتي إنولدت سنة الكسرة (*).
ومع أن قمر لا تعرف ما هو عام الكسرة.. ومن كسره.. ولم كسره.. لم تتبع السؤال بسؤال.. بدا الجواب كافياً..
ألم أقل أن كل شيء كان مفهوماً في ذاك الزمان؟! 


(*)  سنة الكسرة: هي سنة انكسار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

23‏/08‏/2012

قمر.. (1)

- سيدي الشيخ فاطمة جابت بنت.. بس شكلها قوية.. مش سامع صوتها معبي الحارة!
رفع عينيه صوبها وحافظ على اتكائه ويده التي تسند خدّه وقال: وفاطمة كيف حالها؟
- بخير.. والبنت شكلها بخير..
- طيب.. هاتيها خليني أشوفها..

عادت إليه أم عادل بشيء ضئيل ملفوف بخرقة.. ومدّته إليه.. أرغمه ذلك على أن يعتدل في جلسته.. ويتناول طفلته..
نظر إليها زمناً.. بيضاء لا يضاهيها في بياضها شيء.. خدودها كالورد.. في وجهها قبس من نور..
ابتسم.. فتجرّأت أم عادل وسألت: شو بدك تسميها يا شيخ؟ 
بقي صامتاً.. وانتصب ومشى للداخل ليطمئن على فاطمة وناولها الطفلة وقال: هالبنت زي القمر.. راح أسميها قمر..
- طيب يا شيخ.. قريت عليها اشي.. علشان الله يسلّمها..
هزّ رأسه رافضاً وخرج..

شعر أن هذا الوجه ليس في حاجة للأوراد ولا للاستنجاد بالأجداد.. 
شعر أن هذا الوجه سيحيى رغم موت الخمسة الذين سبقوه..
شعر أن هذا الوجه سيبقى على الأقل ليجبره على الابتسام كل يوم..

24‏/07‏/2012

وصفة علاجية للنفس البشرية

يقول الإمام جعفر الصادق (رحمه الله):

عجبت لمن أدركه الخوف ثم لم يفزع لقول الله تعالى (حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران:173،
لأني سمعت الله يعقبها بقوله (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء)آل عمران:174.  

وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع لقول الله تعالى (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء: 87
لأني سمعت الله يعقبها بقوله (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) الأنبياء:88

وعجبت لمن مُكـِرَ به ولم يفزع لقول الله تعالى (وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) غافر:44
لأني سمعت الله يعقبها بقوله (فوقاه الله سيئات ما مكروا) غافر:45

وعجبت من طلب الدنيا و زينتها ولم يفزع لقول الله تعالى (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) الكهف: 39
لأني سمعت الله يعقبها بقوله (إن ترن ِأنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك) الكهف: 39-40
(ويقصد الإمام جعفر الصادق من ذلك: أنك متى جرّدت نفسك من حولك وقوة حيلتك وأسبابك، وتركت الأمر كله لله القادر على كل عطاء، أتتك الدنيا مهرولة)